البيئة النيلية وخصائص النوبة
هل النوبية سلالة عرقية
أ. د. عبدالوهاب إبراهيم الزين
شهدت البيئة النيلية قيام حضارات متعاقبة في مناطقها الشمالية وعند وفود العرب المسلمين ، كانت هناك بيئة بشرية تمثلت في المجموعات التي عرفت بالنوبيين ، وبيئة حضارية تمثلت في الإرث الحضاري الموروث عن الحضارات الكوشية القديمة ، بجانب ما استجد عليها من الحضارة المسيحية التي أخذت طريقها إلى المنطقة وتجلت في قيام الممالك المسيحية الثلاث ؛ نوباطيا ومقرة وعلوه . وللنظر في طبيعة البيئة البشرية ، نرى ضرورة العودة إلى أصول أولئك الذين أسسوا هذه الممالك وعرفوا بالنوبيين ، وما إذا كانت لهم علاقة سلالية بالعناصر التي سادت في الدولة المروية وقبلها في نبته وكرمه، وهل هم نفس النوبيين الذين ورد ذكرهم في النصوص القديمة ؟ بالعودة إلى نهاية الدولة المروية التي نجد في كثير من مفرداتها علاقة باللغة النوبية الحالية ، نجد ذكراً للنوبيين ضمن العناصر التي أخضعها الملك الاكسومي عيزانا وذلك في المحفورة التي عثر عليها لتمان على صخرة في اكسوم . يقول عيزانا في هذه المحفورة أنه سليل هالين ، وصاحب اكسوم وحمير وريدان وسبأ وسلحين وصيامو والبجا ، ملك الملوك حاكم كاسو، من صارع النوبة ويد الله في يده(60) (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftn1). إن هذه الكلمات التي يمجد بها عيزانا انتصاراته تستدعي الوقوف عندها للنظر في اسم النوبة الذي ورد بشكل مستقل عن اسم كوش (كاسو) . ولعل في ذلك ما يعني أن العناصر النوبية التي صارعها عيزانا هي غير العناصر التي تنتمي لكوش التي يدعى أنه حاكمها. في توضيح ذلك ، يقول محمد إبراهيم أبوبكر ، أن منطقة الحضارة المروية في أواخر عهدها لم تعد وقفاً علي الشعب المروي . وإنما ظهر عنصر بشري جديد في المنطقة تمثل في قبائل النوبة التي بدأت تستغل ضعف المملكة المروية وتتجمع في بعض مناطقها بعد أن هجرت مواطنها الأصلية في كردفان . ويقول أن لهؤلاء النوبة الذين ورد ذكرهم في المحفورة فرعان هما : النوبة السود التي استوطنت إلي الجنوب في مناطق النيل الأزرق ، والنوبة الحمر الذين تمركزوا إلي الشمال من نهر عطبرة حتى الشلال الرابع(61) (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftn2). وهو بحديثه هذا ينفي وجود صلة بين المرويين والنوبة ، ويعتبرهم عناصر جديدة وفدت إلى النيل من كردفان قبيل انهيار مروي بقليل . إلا أن المرجح عندنا في هذا الشأن هو أن العناصر النوبية عناصر محلية تكونت منذ العصور الكوشية في المنطقة . تكونت هذه العناصر وتشكلت كنتاج طبيعي لاختلاطات كثير من العناصر السلالية المحلية والوافدة دون أن يعبر هذا الخليط عن انتماء إلى سلالة عرقية معينة. وربما يكون أولئك النوبة السود الذين استوطنوا حول النيل الأزرق في نهاية العهد المروي من الزنوج القادمين من كردفان . ولا يستبعد استنوابهم بحكم وجودهم مع النوبة الحمر. وربما رجعت هذه العناصر إلى كردفان مرة أخرى ، مزودة بكثير من الثقافة النوبية وببعض من لغتها لتحتمي بالجبال إثر اشتداد غارات عيزانا عليهم ، بينما تجمعت فلول النوبة الحمر لتشكل فيما بعد الممالك النوبية الثلاث.
هذه الجماعات التي شكلت الممالك السودانية الثلاث من داخل الحدود المصرية عند الفنتين إلى حدود سنار كانت تشكل أقوى بيئة بشرية على النيل عند قدوم العرب المسلمين . ورغم إطلاق صفة النوبية على هذه الممالك ، إلا أنها في الواقع ما كانت ممالك عشائرية أو قبلية ، لأن العناصر التي شكلتها كانت كما ذكرنا هجيناً من أجناس كثيرة اختلف الباحثون في تحديد هوياتها العرقية . ومنذ دخول التاريخ في فترة غامضة ومجهولة استجدت شكوك في أصول من عرفوا بالنوبيين بين ردهم إلى الأصول الكوشية القديمة والتي بدورها لا تشكل عناصر عرقية صافية ، وردهم إلى عناصر إفريقية جديدة وفدت إلى المنطقة من غرب السودان . بل ظهرت مؤشرات في كتابات الباحثين العرب إلى أن هذه العناصر هي عناصر عربية جاءت إلى المنطقة من أصول حميرية كانت متواجدة في جنوب الجزيرة العربية . يشير إلى ذلك عبدالله بن أحمد الأسواني في كتابه " أخبار النوبة والمقرة وعلوة والبجا والنيل" ويقول أن "سلها" جد النوبة و "مقرى " جد المقـرة من حمير وأنهم جمعياً من ولد حام بن نوح(62) (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftn3). ويصفهم المسعودي في مروج الذهب ويقول بأن "أرضهم كأنها جزء من أرض اليمن، وملوكهم يزعمون أنهم من حمير ويستولون على مقره ونوبة وعلوه ووراء علوه من السودان.. ومن النوبة لقمان الحكيم"(63 (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftn4)). ويذهب القزويني وهو يصف بلاد النوبة بأنها أرض واسعة في جنوبي مصر وشرقي النيل وغربيه ، وأهلها أمة عظيمة نصارى يعاقبة ، ولهم ملك اسمه كابيل يزعمون أنه من نسل حمير(64) (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftn5).
على كل ، كانت هناك في البيئة النيلية مجموعات بشرية عرفت بالمجموعات النوبية عند دخول العرب المسلمين . وكانت تسود بيئتهم الطبيعية بيئة حضارية مميزة. ونظم سياسية قائمة تمثلت في ممالكهم الثلاث . وفد توحدت المملكتان الشماليان في مملكة واحدة ؛ نوباطيا والتي عرفت كذلك بمملكة المريس والتي كانت عاصمتها في فرس ، والمقرة والتي كان مركزها دنقلا العجوز. وعند دخول العرب كانت المملكة الشمالية الموحدة ، أكثر ارتباطاً بالشمال المتوسطي وبالحضارة الشرقية بوجه عام . بينما بقيت المملكة الثانية علوه تمثل رمز التواصل بالعمق الأفريقي . وكأن المملكة الشمالية كانت امتداداً لدور المملكة النبتية في علاقات التواصل مع المحيط الشمالي . وكأن المملكة الجنوبية كانت تتقمص الدور المرويٌ في تواصل السودان مع العمق الأفريقي . إنها العلاقة القدرية والمحتومة على السودان بحكم موقعه الطبيعي ، أن يمثل في كل دورة حضارية جسر التواصل بين الشمال والجنوب ، ويكون رمز الارتباط بين حضارة الشرق والحضارات الأفريقية . إنها الهوية المقدرة على السودانيين أن يرتدوها في كل زمان شاء البعض ذلك أو لم يشأ . لقد استمر الحال في تمثل هذه الأدوار حتى بعد سقوط هذه الممالك ، لتقوم الدويلات العشائرية التي ظهرت مع القبلية الجديدة بعد مجيء العرب المسلمين بالتعبير عن هذه العلاقات التواصلية مع الشمال المتوسطي والعمق الأفريقي كل حسب موقعه . وعلى ذلك كانت هناك بيئة نيلية سودانية مميزة عند دخول العرب المسلمين . إلا أنها لم تكن متماثلة إلى حد التطابق في عنصريها البشري والحضاري وفي بيئاتها الطبيعية . لذلك رأينا تقسيمها إلى بيئات فرعية ثلاث وذلك على الوجه التالي :
1- بيئة حضرية في الشمال ذات طبيعة تجارية وزراعية . تحدد جغرافيا بالمناطق التي قامت عليها مملكتي نوباطيا والمقرة . المرتبطة حضارياً بالشمال والشرق . المنتمية بشرياً حسب اختلاف الآراء ، إلى تلك العناصر الكوشية القديمة التي وفدت عليها واختلطت بها أثناء الحقبة الغامضة بعد انهيار مروي ، عناصر جديدة قد تكون عناصر أفريقية من الغرب السوداني أو عناصر حميرية جاءت من اليمن .
2- بيئة حضارية في الوسط ذات طبيعة رعوية ، قد تمت عناصرها البشرية بصلة عرقية بالعناصر التي تواجدت إلى الشمال ، بدلالة المفردات اللغوية المشتركة- بما فيها معاني عواصمهم ؛ "سوبا" التي على الأرجح تعني في اللغة النوبية " المدينة المشيدة" بجانب العواصم اللاحقة ،"سنار" والتي تعني المدينة القائمة على ضفة النهر ، "وقري" والتي تعني البلدة القاحلة الفقيرة أو حظيرة الماشية (كري) أو "الراكوبة "** (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftn6)- على أن المرجح أن هذه العناصر قد دخلتها مجموعات أفريقية من الجنوب والغرب أكثر من المجموعات التي تسربت إلى الشمال ، فكان ارتباطها أكثر مع العمق الأفريقي.
3-البيئة النيلية الثالثة هي البيئة الأفريقية الصرف التي تواجدت في جنوب السودان . وهي بيئة خارجة عن إطار هذا المبحث لعدم وجود صلة مباشرة بهم بالبيئات التي تأثرت بدخول العرب المسلمين السودان وأثرت فيهم وبما ترتب عن هذا التأثير من انبعاث القبلية الجديدة في السودان الشمالي في ذلك الوقت .
البيئتان النيليتان في الشمال والوسط دخلت عليهما لأول مرة حضارة مقدسية جديدة ، تمثلت في الحضارة المسيحية التي دخلت من البوابة الشمالية في أواخر القرن السادس الميلادي . ولأول مرة في تاريخ السودان يعرف السودانيون علاقة جديدة بينهم وبين المقدس وسلطته غير تلك العلاقات التي سادت لفترات طويلة سابقة . العلاقة الجديدة كانت تعبيرًا عن الارتباط بديانة سماوية راقية تمثل المقدسي فيها مؤسسة الكنيسة ورهبانها وقسسها . وإن كانت سلطة المقدس في الحضارة الكوشية مكوناً أساسياً في علاقات الحكام بالمقدسات وعلاقات الشعب بالحكام من منطلق التزام الجميع بسلطة المقدسات ، فماذا كان دور المقدس المسيحي ورهبانه وقسسه في تجسيد تلك العلاقة ؟ هل التزم الجميع في البيئتين النيليتين ، حكاماً ومحكومين بهذه السلطة الروحية الجديدة كما كان الحال في العهود السابقة ؟ ولعل من أهم ما يجب ملاحظته في هذا الشأن ، وبخصوص سلطة المقدس ، التمييز ما بين المقدس المحلي والمقدس الخارجي . ألم يأت المقدس إلي السودان في العهود القديمة من الخارج ليظهر من خلالها المقدس المحلي القادر على إلزام الكل بسلطانه ؟ فهل تمكن المقدس المسيحي الوافد من الخارج من خلق رموزه المحلية لإلزام الجميع . بمعنى أخر هل ظهر المسيح المحلي الممثل في الكنيسة المحلية والراهب المحلى الذي يلتزم بسلطانه القدسي الحاكم والمحكوم . إنها نفس الجدلية التي بدت مع ظهور المقدس الإسلامي وضرورة خلق الفقيه النوبي كشرط لقبول سلطانه على مستوى الحاكمين والمحكومين .
دخلت المسيحية البيئة النيلية الشمالية مدفوعة من الشمال المهيمن رومانياً ، وبلغة غريبة عليهم وبمؤسسة كنسية وافدة . ظلت هذه العناصر التي تمثل المقدس المسيحي أجنبية في أرض النوبة ولم تكن تعمل لنمو الثقافة المسيحية المستقلة في البلاد(65) (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftn7). وبجانب اغتراب المؤسسة الكنسية فأنها كانت ممزقة من جراء الاختلافات المذهبية بين الكنيستين البيزنطية والمصرية وبين طائفتي اليعاقبة والارثودكس . كما أدى الفساد الذي دب في أوساط القسس والرهبان إلى عدم الثقة فيهم وبالتالي عجزهم عن تغيير حياة الناس نحو الأفضل(66) (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftn8).
ورغم أن ملوك تلك الممالك حاولوا إمساك السلطتين الدنيوية والروحية وأن يصبحوا قساوسة وسياسيين في نفس الوقت(67) (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftn9)، إلا أن مزاولتهم لسلطة المقدس من منطلق نظام ديني قائم علي تعاليم وطقوس مستوردة من الكنيسة القبطية بمصر وباللغة الإغريقية ، لم يؤد إلى بلورة "الديني" والتحامه "بالسياسي" و "الاجتماعي"على الوجه الذي كان سائداً في الحضارات الكوشية. وقد يضاف إلى أسباب ذلك ، بجانب اغتراب "الديني" مؤسسة ولغة ، عامل الزمن الذي لم يتجاوز القرن الواحد حتى داهمت المنطقة ملامح حضارة جديدة كانت أكثر حظاً في الانتشار محلياً وعبر رموز محلية . وربما لو تأخر الزمن قليلاً ، لتم خلق الراهب النوبي الذي كان عليه أن يواصل دوره في نقل حضارة الشمال إلي الجنوب مثلما فعل الكوشيون من نفس الموقع من قبل وبما يماثل دور الفقيه النوبي المسلم من بعد ، حين حمل راية الإسلام إلي الوسط السوداني.** (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftn10)
إذاً يمكن القول بأن الممالك النوبية لم تكن على الهوية المسيحية مثلما كان الحال في دول أوربا في القرون الوسطى . كما وأن "مقدسه "كان عاجزاً عن أن يتقمص "السياسي" ويوجب الإلزام من منطلق نظرية المقدس العادل حين ظل مغترباً عن العامة ومنفصماً كرمز طبقي في مجتمع تعددت طبقاته ما بين أرستقراطية سياسية حاكمة ، ونبلاء إقطاعيين ، وعمارة عسكرية انتظمت على حساب العمارة الدينية وطبقة رجال الدين من القسس والرهبان. فقد كانت مملكة علوه كما يصفها أحد الباحثين ، تتمتع بنظام ذي أيديولوجية إقطاعية عسكرية علمانية ، تقوم على بنية من القوانين والتعهدات والالتزامات(68) (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftn11).
(60) (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftnref1) أوردها جمال محمد أحمد ، في مقدمة تعريب كتاب بازل ديفستون ، أفريقيا تحت أضواء جديدة ، بيروت ، دار الثقافة ، 1961 .
(61) (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftnref2) محمد إبراهيم ابوبكر ، مرجع سابق ، ص ص 213 ،214 .
(62) (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftnref3) نقلاً عن : نعوم شقير ، مرجع سابق ، ص 22 .
(63) (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftnref4) المسعودي ، مروج الذهب ، ومعادن الجوهر ، مرجع سابق ، ص ص 33 –36 .
(64) (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftnref5) القزويني ، آثار البلاد في أخبار العباد ،بيروت، دار صادر ، 1979 ، ص ص 24 ، 25 .
** (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftnref6) اجتهادات من الباحث حسب معرفته باللغات النوبية الحالية
(65) (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftnref7) محمد عمر بشير ، التطور التعليمي في السودان ، مرجع سابق ، ص 23 .
( (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftnref8)66) المرجع السابق نفسه .
(67) (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftnref9) محمد عمر بشير ، تاريخ الحركة الوطنية في السودان ، مرجع سابق ، ص 9 .
** (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftnref10) من الفقهاء النوبيين الذين حملوا راية الإسلام في الوسط السوداني ، الشيخ خوجلي والشيخ حمد والشيخ إدريس ود الأرباب وغيرهم ممن يرد ذكرهم في طبقات ود ضيف الله .
(68) (http://www.nubian-forum.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=13#_ftnref11) جعفر طه حمزة ، مرجع سابق ، ص 46 .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
مشاركة مميزة
-
Can I sign u AHMED MOHAMED EL-WAZIRY" , "sami _rn2000" , "FAIRS animal" , "DR Abd-El-Rahman" , &quo...
-
http://www.ahram.org.eg/Egypt/News/123073.aspx اللهم لاتجعل هلاك مصر على يد الجنزورى اد-عبدالعزيزنور nouraziz2000@yahoo.com (رسالة مو...
-
Inter-Agency Network for Education in Emergencies Terminology of ... Inter-Agency Network for Education in Emergencies Terminology of Fragil...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق