‏إظهار الرسائل ذات التسميات كيف نوفر «لقمة العيش» للمصريين؟. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كيف نوفر «لقمة العيش» للمصريين؟. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، يوليو 1

كيف نوفر «لقمة العيش» للمصريين؟

--------------------------------------------------------------------------------
آلان جريش رئيس تحرير «لوموند ديبلوماتيك» الفرنسية: لا أحد فى «مصر الثورة» يريد الإجابة عن سؤال الإقتصاد: كيف نوفر «لقمة العيش» للمصريين؟

حوار أحمد محجوب ١/ ٧/ ٢٠١١


آلان جريش
صحفى مخضرم قاد إحدى كبرى المؤسسات الصحفية فى فرنسا، ويسارى بارز، ومحلل سياسى عاصر الأحداث الكبرى فى مصر حيث ولد عام ١٩٤٨. الصحفى الفرنسى آلان جريش يقرأ «زحام المواقف» فى الثورة المصرية، ويحلل التغيرات وحالة «حرب التصريحات» التى تدور فى مصر، دون أن يغيب عن ذهنه أنه أمام شعب ثار وانتصر، ودولة تتطلع لمستقبل مختلف، ومجتمع فى مرحلة إعادة تشكيل.

فى هذا الحوار يفتح آلان جريش، رئيس تحرير «لوموند ديبلوماتيك»، ملفات الاقتصاد، والإعلام والأداء الحكومى، ومدنية الدولة والانتخابات، وبناء نظام ديمقراطى ويطرح تساؤلات حول «الهوية الاقتصادية» لمصر الجديدة، والتعقيدات الدولية التى على القاهرة أن تستوعبها وتتفاوض حولها «بشراسة» لتبتكر طريقها الخاص، وإلى نص الحوار:

■ الآن وبعد ٥ شهور تقريبا على الثورة.. يبدو المشهد السياسى المصرى مرتبكا للغاية، ولا يكاد النقاش يهدأ فى قضية حتى يبدأ فى قضية أخرى.. كيف تقرأ هذا المشهد المضطرب؟

- ما يحدث فى مصر الآن طبيعى جداً، فالشعب كان موحداً حول رحيل مبارك، وحين رحل عن السلطة ظهرت الاختلافات، وهو أمر منطقى، فميدان التحرير وحد المصريين ضد مبارك، وميدان التحرير كان يضم الجميع، لكن الأهم أن ما تغير أن الخوف رحل وعادت الكرامة، ولا أظن أن الشعب مستعد أن يكون هناك نظام يعتدى عليه ويقمعه ويأخذ منه أموالا دون وجه حق.

■ عادت مؤخراً حالات التعذيب ليظهر على السطح، مرة أخرى المتهم الرئيسى.. هل تعود الثورة إلى الوراء؟

- مبدئيا، أنا ولدت فى مصر عام ١٩٤٨، وشاهدت تجربة ناصر (جمال عبدالناصر)، وكانت هناك مقولة شائعة أن من يقبض عليه ويذهبون به إلى الكوميسارية (مركز الشرطة) يتعرض للضرب أولا ثم يبدأ التحقيق معه، لذلك هذه للأسف ثقافة متجذرة فى مصر. لكن ما أراه أن هذه النقطة المتعلقة بكرامة الإنسان لن تعود إلى ما كانت عليه الأوضاع قبل ٢٥ يناير، ولا أعتقد أن الناس سوف تقبل بالعودة للقمع، وهناك صحف وفضائيات وإنترنت وميدان تحرير يمكن العودة إليه.

■ تبدو متفائلا للغاية، لكن البعض متخوف من عودة القمع تحت دعاوى مختلفة فما تعليقك؟

- بالتأكيد لا يمكن الجزم بشكل قطعى حول المستقبل، فربما تنشب حرب تكون مصر طرفاً فيها وتفرض السلطات إجراءات استثنائية، لكن بشكل عام تظل الكرامة الإنسانية أهم ما أنجزته الثورة، وحتى فى فرنسا وهى دولة لديها ثقافة حقوقية قوية، توجد مشاكل مع الشرطة، لكنى أظن أن نزول المدنيين إلى الشوارع ودفاعهم عن حقهم، وما ينشره الإعلام يجعل العودة للوراء صعبة جداً.

■ هناك مخاوف من طريقة كتابة الدستور الجديد فى ظل مطالبة الجميع تقريبا بـ«كوتة دستورية»، فالمجلس العسكرى يتحدث عن «وضع خاص» للجيش، والإسلاميون يحاربون من أجل «كوتة شريعة» والكنيسة تطالب بـ«ضمانات» فهل يخرج الدستور المصرى على طريقة «الحصص» كما فى لبنان والعراق؟

- فى العالم كله توجد تفاهمات حول الدستور، وحتى تفاهمات المجلس العسكرى والإخوان مسألة مؤقتة، ومن الطبيعى أن يتفاهم الجزء الوحيد المتماسك من الدولة مع الفصيل الوحيد المنظم فى الشارع، خاصة فى هذه المرحلة.

والمشكلة الحقيقية هى غياب أى نقاش حول الهوية الاقتصادية للدولة، فالحوار الحالى محصور فى دور الشريعة، لكن لا يوجد حوار حول المشكلة الأساسية لهذا البلد، وهى التنمية الاقتصادية، وإعادة توزيع الثروة.

التنمية الاقتصادية أيضا معناها تحقيق عدالة اجتماعية، ولو نتذكر كان شعار الثورة فى يومها الأول «خبز.. حرية.. عدالة اجتماعية»، لكن الجميع يرفضون مناقشة الأمر رغم خطورته الشديدة، وأنا أعتقد أن مشاكل الشارع المصرى معظمها اقتصادية، خاصة مع «لقمة العيش» كما تقولون، هذا لا يعنى أن الشعب لا يهتم بالحريات، لكن السؤال الأصعب هو كيف نوفر «لقمة العيش» هذه للمصريين دون المساس بالحريات، وبشكل كريم وعادل لا يدفع ثمنه الفقراء، الذين هم الوقود الحقيقى للثورة، وهم أكثر من دفع الثمن أيام مبارك؟

■ «الدستور أولا أم الانتخابات أولا»؟.. يبدو هذا السؤال هو أكثر الأسئلة التى تشغل المصريين حاليا.. كيف تقيم هذا النقاش الحاد الذى يكاد يصل لدرجة المعركة؟

- مبدئياً هناك ١٨ مليون مواطن صوتوا للاستفتاء ويجب ألا نعود للوراء، ويجب أن نحترم أصواتهم، وبشكل شخصى أعتقد أن انتخاب المحليات أكثر أهمية، فعلى مستوى القرية أو المدينة الصغيرة، يمكن للمواطن أن يدرك قيمة صوته، وأن يراقب بدقة تصرفات المرشحين والمسؤولين، ويحاسبهم ويعزلهم إذا لم يستجيبوا لتطلعاته، لذلك ربما تكون تلك الانتخابات المرحلة الأولى للوصول لديمقراطية حقيقية.

لكن المشكلة أن الأحزاب فى مصر تتجه للانتخابات دون برامج حقيقية وواضحة، فهنا كانت الأحزاب القديمة تابعة للنظام، وهذه مشكلة ضخمة، والجديدة بلا برامج، والتكتلات السياسية هى تكتلات وراء أشخاص للأسف، وليست وراء برامج محددة أو أيديولوجيا بعينها، فهى أحزاب الرجل الواحد.

■ فى ٢٥ يناير فجر الشباب الثورة، وبعد إزاحة رأس النظام لا يزالون بعيدين عن مراكز اتخاذ القرار، ونفاجأ كل فترة بقانون يصدر هكذا دون نقاش وبقرار منفرد.. فى ظل هذا الوضع كيف تقرأ المستقبل؟

- صعب أن يتنبأ أحد بالمستقبل فى مصر، ولا أحد فكر فى تنظيم المرحلة الانتقالية، فلا المجلس العسكرى ولا الأحزاب ولا حتى شباب الثورة وضعوا خطة لما سوف يحدث فى تلك المرحلة، فكان رحيل مبارك هو المطلب الرئيسى، لكن ليس هناك خطة متفق عليها لإدارة المرحلة، وهذا أيضا أمر مفهوم، خاصة حين نرى أن الأمن والوزارات والمسؤولين فى كل قطاعات الدولة من الجيل القديم، وحتى فى المؤسسات الإعلامية الرسمية التغيير قليل، وقبل فترة رأيت مظاهرة للمحامين يقولون إن الثورة أزاحت مبارك لكن هناك ألف مبارك باقين فى مواقعهم، وهذه مسألة سوف تتطلب وقتا، لذلك أعتقد أن المرحلة الانتقالية سوف تستمر طويلا.

■ تستمر حتى بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية؟

- لا أعتقد أن الانتخابات سوف تغلق باب المرحلة الانتقالية تماماً، وحتى الآن لا أحد يستطيع مثلا أن يقول من سيأتى رئيسا لمصر، ليس فقط من هو الشخص الذى سوف يتولى المنصب، لكن أيضا ما صلاحياته الدستورية وبالتالى مسؤولياته، وما طبيعة العلاقة بين الحكومة والبرلمان والرئاسة؟.. كل هذه الأشياء لا تزال ضبابية، فمصر فى مرحلة ثورية، وهذا أمر لا يثير القلق إطلاقا، فحين بدأت الثورة الفرنسية مثلا، لم يكن هناك قادة معروفون، ولا برامج واضحة، وحتى فكرة التحول للجمهورية لم تكن مطروحة، حتى ظهرت فجأة وتحققت بعد ٣ سنوات من الثورة، لكن المهم أن المرحلة الثورية مرحلة نضج، والناس تتعلم بسرعة فى تلك المرحلة، وتعرف كيف تواجه التحديات، وكيف تحدد خطواتها.

■ بما أنك ضربت مثالاً بفرنسا، فهناك جاء الجنرال شارل ديجول للحكم، بطريقة ديمقراطية، فى مصر حاليا ظهر ٤ جنرالات سابقون كمرشحين محتملين للرئاسة.. هل يفتح هذا الباب لسيناريو «رئيس عسكرى بزى مدنى»؟

- ديجول كان عسكريا، لكن لا يمكن أن نقول إن حكمه كان حكما عسكريا هذا أولا. ثانياً: الجيش سيكون له دور فى المستقبل، فهو جزء من تاريخ الدولة فى مصر، ففى تركيا كان دور الجيش هو الأهم، ثم تقلص من ٢٠ إلى ٣٠ سنة، لكن دور الجيش موجود تاريخيا فى مصر، لكن الأهم أن يكون معروفاً ما هو دوره بالتحديد، وما هو خارج إطار سلطاته.

■ وماذا عن فكرة ضمان الجيش مدنية الدولة؟

- هذه فكرة عجيبة جدا، فكيف تكون مؤسسة عسكرية هى ضمانة المدنية؟. وعامة هذه المقولة يرددها تيار كان مؤيداً لمبارك خوفا من الإسلاميين، وهذا أمر مرفوض.

والمشكلة أن البعض من المثقفين يعتقد أن الشعب جاهل ولا يستطيع أن يأخذ قراراً بشكل سليم، وهذا أمر آخر مرفوض أيضا، فالديمقراطية هى الديمقراطية، ومَنْ يستطيع أن يقول إن صوت المثقف مثلا أهم من صوت العامل؟ لا أحد فالموضوع أن لكل مواطن حقاً أصيلاً فى اختيار ما يراه مناسبا، وأحيانا يأخذ بعض المثقفين مواقف غير موفقة.

وأعتقد أنه فى جو ديمقراطى لن تكون هناك دولة دينية مثل السعودية أو طالبان، وبشكل شخصى أعتقد أن شريحة واسعة من الذين يصوتون للإسلاميين لا يريدون هذه النماذج.

■ عادت «فزاعة الإسلاميين» مرة أخرى كما يقول البعض، بعد تصريحات مثيرة لقيادات التيار الدينى وبعد الصعود الكبير للإخوان المسلمين.. فكيف تقرأ هذا الطرح؟

- فى البداية كان الإخوان موحدين، ولديهم برنامج سهل وفضفاض، بسبب الضغوط الأمنية، لكن مشكلة الإخوان حالياً فى الشارع، ولا يستطيعون أن يقولوا شيئا ويفعلوا نقيضه، طبعا بعضهم يفعل ذلك لكن هناك وسائل إعلام تنشر، «وإنترنت» يحتوى على أرشيف، وشارعاً يتعلم بسرعة، وأتمنى أن يصل الإخوان للحكم لنعرف ما هى برامجهم الحقيقية.

أظن أن المناخ الديمقراطى هو الأهم ولا يجوز أن يقال إن الجيش هو الضامن للدولة المدنية، فالشعب هو الضامن الوحيد للديمقراطية.

■ هناك انتقادات متبادلة بين الليبراليين والإسلاميين حول الديمقراطية.. هذا الجدل الحاد كيف تفسره؟

- ليس هذا هو الحوار الأهم رغم أنه يظهر أمام الناس للأسف كأنه حلبة الصراع الوحيدة، وأعتقد أن الليبراليين والإسلاميين سعداء بهذا الصراع الوهمى، كى لا يجيبوا عن أسئلة تتعلق بالاقتصاد والتغيرات الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة، وحتى ما معنى الديمقراطية، وطرق تطبيقها، وما معنى الدولة المدنية، فليس هناك نموذج موحد لها يمكن استنساخه.

وحتى مع اعترافنا بأن هناك مشكلة فى المستوى الثقافى للجمهور، وهناك حاجة لعملية تثقيف واسعة، لكن وبكل الأحوال لا يجوز أن يعتقد أحد أن عليه أن «يربى» الشعب أولا ٢٠ سنة ثم «يعطيه» الحق فى اتخاذ القرار.

■ طرح وجود المجلس العسكرى وحكومة شرف معاً تساؤلات حول ازدواج السلطة فى مصر.. إلى أى مدى تعتقد فى هذا التناقض؟

- هناك تناقضات داخل كل سلطة، فحتى المجلس العسكرى ليست لديه رؤية موحدة حول العديد من الأمور، مثلا ما هو موقفه حول الرواتب، والموازنة العامة للدولة، والتنمية الاقتصادية؟ ربما تكون لديه مواقف عامة لكن ليس أكثر من ذلك، أيضا داخل الحكومة الحالية هناك تناقضات مماثلة واختلاف فى الرؤى، لأنه لا يوجد اتجاه عام أو خطة واضحة.

■ هذا يجرنا لسؤال آخر، حول أداء الحكومة خاصة فى موضوع الاقتراض من الخارج لسد العجز فى الموازنة.. كيف تقيم تلك الخطوة؟

- يجب أولا أن نعرف الدور السيئ الذى قامت به المؤسسات الدولية المانحة مثل البنك الدولى وصندوق النقد فيما يتعلق بمصر، ولنعد لما كانوا يكتبونه عن انتعاش الاقتصاد فى عهد مبارك، ودعمهم للنظام السابق وهم يعرفون جيدا ماذا يجرى على الأرض. هنا على شباب الثورة أن يكون لهم موقف واضح تجاه تلك المؤسسات التى دعمت الديكتاتورية، وهذا التأييد لم يكن سياسيا فقط بالتقارير، لكنه كان تأييدا اقتصاديا أيضا.

ثانياً تلك المؤسسات الدولية تضع خططا وشروطا ليست بالتأكيد حقائق علمية مسلماً بها، فالعالم كله رأى كيف فجرت قرارات البنك الدولى وغيره الأزمة الآسيوية فى التسعينيات، ومعظم دول آسيا قطعت علاقتها بتلك المؤسسات والجهات، ورفضت اتفاقية واشنطن حول الليبرالية الاقتصادية، وحققت تقدما مهما.

■ هل مصر فى وضع يسمح لها بأن تأخذ قراراً مماثلاً لما فعلته الدول الآسيوية؟

- علينا أن نعترف بأن وضع مصر الاقتصادى صعب، لكن هذا لا يمنع أن تكون لدى حكومة القاهرة رؤية واضحة، وأن تتفاوض بشراسة، ولا تقبل كل الشروط.

لكن هناك ملامح تثير القلق، مثلا فى مصر الآن نقاش ضخم حول الضرائب، وهذا نقاش غريب فى الحقيقة، فحتى فى الدول الرأسمالية الكبرى، تُفرض ضرائب تصاعدية، لكن فى مصر يثور البعض حين تقول الحكومة إنها سوف تفرض ضريبة ٢٠ أو ٢٥% على من يصل دخله إلى ١٠٠ ألف جنيه، وهذا غير منطقى ففى فرنسا مثلا إذا تجاوز دخلك مبلغا بعينه تدفع ٥٠% منه ضرائب للدولة التى تعيده للفقراء فى صورة خدمات.

■ هناك محللون تخوفوا من موجة الدعم الاقتصادى المعروضة على مصر من دول غربية باعتبارها محاولة لإيجاد قدم فى «مصر الثورة».. هل تتفق مع هذه الرؤى؟

- بتقديرى ليست مشكلة أصلا أن تحاول بعض الدول إيجاد موطئ قدم، فهذا أمر طبيعى لأن كل الدول تتحرك حسب مصالحها، ومصر دولة مهمة للغاية، لكن المشكلة أننى لا أشعر بأن هناك حكومة مصرية لديها خطة واضحة فيما يتعلق بالاقتصاد تتفاوض على أساسها وتأخذ ما تريد وترفض ما لا يناسبها. وما أخشاه أن تأخذ الحكومة المصرية المواقف الاقتصادية للولايات المتحدة باعتبارها «مواقف مبدئية»، وهذا طريق سيؤدى لأن تخسر مصر كثيراً.

■ بمناسبة الضرائب كيف تفسر تراجع الحكومة السريع عن الضريبة الجديدة؟

- فكرة الضرائب كانت مفيدة جدا للاقتصاد المصرى، لكن الحكومة تراجعت بسرعة، وبشكل شخصى حين وصلت إلى مصر اندهشت من الحديث بفزع عن محورى الأمن والاقتصاد، وشخصيا مصر من أكثر الدول التى أشعر فيها بالأمان، والقاهرة مثلا من العواصم القليلة جدا التى يمكنك أن تخرج فيها فى وقت متأخر من الليل للشارع وتعود سالما.

أما عن الاقتصاد فهناك مشاكل، ربما ورثتها الحكومة مما قبل الثورة، لكن إثارة فزع الشعب من الاقتصاد رسالة هدفها النهائى أن يعود المواطنون إلى منازلهم، فالثورة انتهت، وهذا أسلوب لا يحل المشاكل الاقتصادية.

■ وسط هذه الظروف هل تعتقد أن «مصر الثورة» قادرة على شق طريق اقتصادى مختلف وتفادى ضغوط الدول الكبرى؟

- الثورة المصرية حدثت فى عالم يتغير وهذا شىء مهم جدا ومفيد لمصر، فلسنا فى التسعينيات حيث كان هناك النموذج الاقتصادى الأمريكى وحده، أما الآن فلدينا نماذج بعيدة عن اتفاقية واشنطن الاقتصادية، مثل الصين والهند والبرازيل وهى قوى اقتصادية صاعدة ومميزة، لذلك هناك إمكانية لدولة بحجم مصر أن تقرر مستقبلها الاقتصادى.

طبعا العلاقات الاقتصادية مع أوروبا وأمريكا مهمة، لكن هناك خيارات أخرى، فلابد أن تستوعب مصر هذا التغير الاقتصادى التاريخى، وهذا مهم للغاية لدعم الثورة المصرية، وعلى الثوار أن يعرفوا أنهم فى عالم جديد، وأن يتعاملوا على هذا الأساس.

■ أليس غريبا أن يختفى اليسار فى مصر فى الوقت الذى تتصاعد فيه مطالب شعبية هى بالأساس على أجندته؟

- بالتأكيد اليسار المصرى خسر للغاية. فتجربة حزب التجمع ومواقفه المؤيدة للنظام أدت لخسارة حقيقية، لكن هناك حركات يسارية كانت مشاركة فى الثورة ومن البداية، وكذلك هناك النقابات المستقلة، وأرى محاولات تطور فى القطاع العمالى، وربما تكون لاعبا مؤثراً، لكن المشكلة أنه حتى الآن لا يوجد برنامج شامل لحقوق العمال والفلاحين يرفعه اليسار.

■ بالنسبة للعمال هم الآن فى مرمى سهام «الفئوية» وهناك قانون لتجريم الاحتجاجات طرحته حكومة جاءت عبر احتجاج أصلا.. كيف تقرأ هذا الملف؟

- لنبدأ بما يسمونها مطالب فئوية، هل من المعقول أن نعتبر مطالبة عامل فقير بأجره مطلب فئوى يجب تأجيله؟ فى الوقت الذى يرفض فيه رجال الأعمال دفع ضرائب للدولة ويهددون بمؤشر البورصة رغم أنه ليس معبرا عن الاقتصاد المصرى، فتستجيب الدولة وتلغى الضريبة فى ٢٤ ساعة.

■ وماذا عن تحرك العمال نقابيا.. لدينا الآن اتحاد رسمى وآخر مستقل، واتحاد أعلنت قيادات الإخوان عزمهم تأسيسه تحت عنوان اتحاد عمال الإخوان المسلمين؟

- الأصل أن هذه نقابات للعمال، ولا يجب أن تكون خاضعة لحزب بعينه، وأتوقع أن ينتهى اتحاد العمال الحكومى، وألا تنجح نقابة عمال الإخوان، أما النقابات الحرة فلديها فرصة، وقد قابلت بعضا من العمال هنا ولديهم وعى جيد جدا فيما يتعلق بالمطالب وحتى بتاريخ الحركة العمالية فى مصر المستمر منذ نحو قرن كامل.

وببساطة إذا أراد اليسار أن يكون له دور بين التيارين الليبرالى والدينى فعليه أن يعود لدوره الحقيقى وسط العمال.

■ لنبتعد قليلا عن الاقتصاد ولنتحدث عن الإعلام.. كيف تقرأ المشهد الإعلامى المصرى بعد الثورة؟

- المشهد اتسع، لكن ما يشغلنى الآن هو مصير المؤسسات الصحفية القومية، فمن النظرة الأولى على الخريطة الإعلامية تجد أن هناك فضائيات، وإعلاماً مستقلاً، لكن الكتلة القومية التى كانت تؤيد مبارك أصبحت تؤيد المجلس العسكرى، وفى مصر يقولون «اللى يتجوز أمى أقوله يا عمى»، ومصير المؤسسات القومية والتليفزيون الحكومى هو ما يشغلنى الآن.

■ هناك انتقادات حادة موجهة للإعلام، والمجلس العسكرى فى آخر بياناته ينتقد وسائل الإعلام ويطالبها بتحرى الدقة، ومؤخرا أحيل ٣ صحفيين للنيابة العسكرية.. هل الإعلام على أبواب مأزق جديد مع السلطة؟

- كما قلت لك المشهد اتسع، ولم يعد بمقدور أحد أن يفكر فى الإعلام بطريقة الستينيات، والمجلس العسكرى والجنرالات من جيل مبارك لا يتصورون كيف يمكن لشاب فى العشرينيات أن يقف فى مؤتمر وينتقدهم بشجاعة.

لكن لابد أن نعترف بأن الصحافة المصرية لديها مشكلات عميقة، فما ينشر اليوم تكذبه الصحف غداً، وعلى الإعلاميين أن تكون لديهم ثقافة التأكد من المصادر، فإذا قال أحد شباب تنظيمات الثورة إنه يؤيد مظاهرة ما تخرج الصحف فى اليوم التالى لتعلن تأييد شباب الثورة للمظاهرة أو الاحتجاج، وهذا أمر غير دقيق أبدا ويحتاج كما قلت لثقافة التأكد من المصادر.

■ أصبح مستخدمو الإنترنت فى مصر نحو ٢٣ مليوناً، وبدأت المصادر الرسمية تتراجع لصالح صحافة أقرب لصحافة المواطن خاصة على الإنترنت.. هل يتراجع دور الصحفى؟ وهل الصحافة قادرة على تطوير أدواتها لتستوعب هذا الزخم الجديد؟

- انتشار الإنترنت واستخدامها بكثافة مصدر جديد للأخبار، وهذا لا يثير القلق، نعم على الميديا أن تتطور، ونعم هناك دور متزايد للصحفى المواطن، لكن لنقل إن الأفراد كانوا دائما صانعى الأحداث، فيما كانت وسائل الإعلام التقليدية تتعامل مع المصادر الرسمية أكثر وتركز عليها. هذه المعادلة سوف تتغير بالتأكيد، لكن دور الصحفى سيظل موجودا بلا شك فهو الذى ينقل الخبر، ويعرض وجهات النظر المختلفة، وهو من يقرر إبراز خبر بعينه أو معلومة بعينها.

كيف نوفر «لقمة العيش» للمصريين؟

--------------------------------------------------------------------------------
آلان جريش رئيس تحرير «لوموند ديبلوماتيك» الفرنسية: لا أحد فى «مصر الثورة» يريد الإجابة عن سؤال الإقتصاد: كيف نوفر «لقمة العيش» للمصريين؟

حوار أحمد محجوب ١/ ٧/ ٢٠١١


آلان جريش
صحفى مخضرم قاد إحدى كبرى المؤسسات الصحفية فى فرنسا، ويسارى بارز، ومحلل سياسى عاصر الأحداث الكبرى فى مصر حيث ولد عام ١٩٤٨. الصحفى الفرنسى آلان جريش يقرأ «زحام المواقف» فى الثورة المصرية، ويحلل التغيرات وحالة «حرب التصريحات» التى تدور فى مصر، دون أن يغيب عن ذهنه أنه أمام شعب ثار وانتصر، ودولة تتطلع لمستقبل مختلف، ومجتمع فى مرحلة إعادة تشكيل.

فى هذا الحوار يفتح آلان جريش، رئيس تحرير «لوموند ديبلوماتيك»، ملفات الاقتصاد، والإعلام والأداء الحكومى، ومدنية الدولة والانتخابات، وبناء نظام ديمقراطى ويطرح تساؤلات حول «الهوية الاقتصادية» لمصر الجديدة، والتعقيدات الدولية التى على القاهرة أن تستوعبها وتتفاوض حولها «بشراسة» لتبتكر طريقها الخاص، وإلى نص الحوار:

■ الآن وبعد ٥ شهور تقريبا على الثورة.. يبدو المشهد السياسى المصرى مرتبكا للغاية، ولا يكاد النقاش يهدأ فى قضية حتى يبدأ فى قضية أخرى.. كيف تقرأ هذا المشهد المضطرب؟

- ما يحدث فى مصر الآن طبيعى جداً، فالشعب كان موحداً حول رحيل مبارك، وحين رحل عن السلطة ظهرت الاختلافات، وهو أمر منطقى، فميدان التحرير وحد المصريين ضد مبارك، وميدان التحرير كان يضم الجميع، لكن الأهم أن ما تغير أن الخوف رحل وعادت الكرامة، ولا أظن أن الشعب مستعد أن يكون هناك نظام يعتدى عليه ويقمعه ويأخذ منه أموالا دون وجه حق.

■ عادت مؤخراً حالات التعذيب ليظهر على السطح، مرة أخرى المتهم الرئيسى.. هل تعود الثورة إلى الوراء؟

- مبدئيا، أنا ولدت فى مصر عام ١٩٤٨، وشاهدت تجربة ناصر (جمال عبدالناصر)، وكانت هناك مقولة شائعة أن من يقبض عليه ويذهبون به إلى الكوميسارية (مركز الشرطة) يتعرض للضرب أولا ثم يبدأ التحقيق معه، لذلك هذه للأسف ثقافة متجذرة فى مصر. لكن ما أراه أن هذه النقطة المتعلقة بكرامة الإنسان لن تعود إلى ما كانت عليه الأوضاع قبل ٢٥ يناير، ولا أعتقد أن الناس سوف تقبل بالعودة للقمع، وهناك صحف وفضائيات وإنترنت وميدان تحرير يمكن العودة إليه.

■ تبدو متفائلا للغاية، لكن البعض متخوف من عودة القمع تحت دعاوى مختلفة فما تعليقك؟

- بالتأكيد لا يمكن الجزم بشكل قطعى حول المستقبل، فربما تنشب حرب تكون مصر طرفاً فيها وتفرض السلطات إجراءات استثنائية، لكن بشكل عام تظل الكرامة الإنسانية أهم ما أنجزته الثورة، وحتى فى فرنسا وهى دولة لديها ثقافة حقوقية قوية، توجد مشاكل مع الشرطة، لكنى أظن أن نزول المدنيين إلى الشوارع ودفاعهم عن حقهم، وما ينشره الإعلام يجعل العودة للوراء صعبة جداً.

■ هناك مخاوف من طريقة كتابة الدستور الجديد فى ظل مطالبة الجميع تقريبا بـ«كوتة دستورية»، فالمجلس العسكرى يتحدث عن «وضع خاص» للجيش، والإسلاميون يحاربون من أجل «كوتة شريعة» والكنيسة تطالب بـ«ضمانات» فهل يخرج الدستور المصرى على طريقة «الحصص» كما فى لبنان والعراق؟

- فى العالم كله توجد تفاهمات حول الدستور، وحتى تفاهمات المجلس العسكرى والإخوان مسألة مؤقتة، ومن الطبيعى أن يتفاهم الجزء الوحيد المتماسك من الدولة مع الفصيل الوحيد المنظم فى الشارع، خاصة فى هذه المرحلة.

والمشكلة الحقيقية هى غياب أى نقاش حول الهوية الاقتصادية للدولة، فالحوار الحالى محصور فى دور الشريعة، لكن لا يوجد حوار حول المشكلة الأساسية لهذا البلد، وهى التنمية الاقتصادية، وإعادة توزيع الثروة.

التنمية الاقتصادية أيضا معناها تحقيق عدالة اجتماعية، ولو نتذكر كان شعار الثورة فى يومها الأول «خبز.. حرية.. عدالة اجتماعية»، لكن الجميع يرفضون مناقشة الأمر رغم خطورته الشديدة، وأنا أعتقد أن مشاكل الشارع المصرى معظمها اقتصادية، خاصة مع «لقمة العيش» كما تقولون، هذا لا يعنى أن الشعب لا يهتم بالحريات، لكن السؤال الأصعب هو كيف نوفر «لقمة العيش» هذه للمصريين دون المساس بالحريات، وبشكل كريم وعادل لا يدفع ثمنه الفقراء، الذين هم الوقود الحقيقى للثورة، وهم أكثر من دفع الثمن أيام مبارك؟

■ «الدستور أولا أم الانتخابات أولا»؟.. يبدو هذا السؤال هو أكثر الأسئلة التى تشغل المصريين حاليا.. كيف تقيم هذا النقاش الحاد الذى يكاد يصل لدرجة المعركة؟

- مبدئياً هناك ١٨ مليون مواطن صوتوا للاستفتاء ويجب ألا نعود للوراء، ويجب أن نحترم أصواتهم، وبشكل شخصى أعتقد أن انتخاب المحليات أكثر أهمية، فعلى مستوى القرية أو المدينة الصغيرة، يمكن للمواطن أن يدرك قيمة صوته، وأن يراقب بدقة تصرفات المرشحين والمسؤولين، ويحاسبهم ويعزلهم إذا لم يستجيبوا لتطلعاته، لذلك ربما تكون تلك الانتخابات المرحلة الأولى للوصول لديمقراطية حقيقية.

لكن المشكلة أن الأحزاب فى مصر تتجه للانتخابات دون برامج حقيقية وواضحة، فهنا كانت الأحزاب القديمة تابعة للنظام، وهذه مشكلة ضخمة، والجديدة بلا برامج، والتكتلات السياسية هى تكتلات وراء أشخاص للأسف، وليست وراء برامج محددة أو أيديولوجيا بعينها، فهى أحزاب الرجل الواحد.

■ فى ٢٥ يناير فجر الشباب الثورة، وبعد إزاحة رأس النظام لا يزالون بعيدين عن مراكز اتخاذ القرار، ونفاجأ كل فترة بقانون يصدر هكذا دون نقاش وبقرار منفرد.. فى ظل هذا الوضع كيف تقرأ المستقبل؟

- صعب أن يتنبأ أحد بالمستقبل فى مصر، ولا أحد فكر فى تنظيم المرحلة الانتقالية، فلا المجلس العسكرى ولا الأحزاب ولا حتى شباب الثورة وضعوا خطة لما سوف يحدث فى تلك المرحلة، فكان رحيل مبارك هو المطلب الرئيسى، لكن ليس هناك خطة متفق عليها لإدارة المرحلة، وهذا أيضا أمر مفهوم، خاصة حين نرى أن الأمن والوزارات والمسؤولين فى كل قطاعات الدولة من الجيل القديم، وحتى فى المؤسسات الإعلامية الرسمية التغيير قليل، وقبل فترة رأيت مظاهرة للمحامين يقولون إن الثورة أزاحت مبارك لكن هناك ألف مبارك باقين فى مواقعهم، وهذه مسألة سوف تتطلب وقتا، لذلك أعتقد أن المرحلة الانتقالية سوف تستمر طويلا.

■ تستمر حتى بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية؟

- لا أعتقد أن الانتخابات سوف تغلق باب المرحلة الانتقالية تماماً، وحتى الآن لا أحد يستطيع مثلا أن يقول من سيأتى رئيسا لمصر، ليس فقط من هو الشخص الذى سوف يتولى المنصب، لكن أيضا ما صلاحياته الدستورية وبالتالى مسؤولياته، وما طبيعة العلاقة بين الحكومة والبرلمان والرئاسة؟.. كل هذه الأشياء لا تزال ضبابية، فمصر فى مرحلة ثورية، وهذا أمر لا يثير القلق إطلاقا، فحين بدأت الثورة الفرنسية مثلا، لم يكن هناك قادة معروفون، ولا برامج واضحة، وحتى فكرة التحول للجمهورية لم تكن مطروحة، حتى ظهرت فجأة وتحققت بعد ٣ سنوات من الثورة، لكن المهم أن المرحلة الثورية مرحلة نضج، والناس تتعلم بسرعة فى تلك المرحلة، وتعرف كيف تواجه التحديات، وكيف تحدد خطواتها.

■ بما أنك ضربت مثالاً بفرنسا، فهناك جاء الجنرال شارل ديجول للحكم، بطريقة ديمقراطية، فى مصر حاليا ظهر ٤ جنرالات سابقون كمرشحين محتملين للرئاسة.. هل يفتح هذا الباب لسيناريو «رئيس عسكرى بزى مدنى»؟

- ديجول كان عسكريا، لكن لا يمكن أن نقول إن حكمه كان حكما عسكريا هذا أولا. ثانياً: الجيش سيكون له دور فى المستقبل، فهو جزء من تاريخ الدولة فى مصر، ففى تركيا كان دور الجيش هو الأهم، ثم تقلص من ٢٠ إلى ٣٠ سنة، لكن دور الجيش موجود تاريخيا فى مصر، لكن الأهم أن يكون معروفاً ما هو دوره بالتحديد، وما هو خارج إطار سلطاته.

■ وماذا عن فكرة ضمان الجيش مدنية الدولة؟

- هذه فكرة عجيبة جدا، فكيف تكون مؤسسة عسكرية هى ضمانة المدنية؟. وعامة هذه المقولة يرددها تيار كان مؤيداً لمبارك خوفا من الإسلاميين، وهذا أمر مرفوض.

والمشكلة أن البعض من المثقفين يعتقد أن الشعب جاهل ولا يستطيع أن يأخذ قراراً بشكل سليم، وهذا أمر آخر مرفوض أيضا، فالديمقراطية هى الديمقراطية، ومَنْ يستطيع أن يقول إن صوت المثقف مثلا أهم من صوت العامل؟ لا أحد فالموضوع أن لكل مواطن حقاً أصيلاً فى اختيار ما يراه مناسبا، وأحيانا يأخذ بعض المثقفين مواقف غير موفقة.

وأعتقد أنه فى جو ديمقراطى لن تكون هناك دولة دينية مثل السعودية أو طالبان، وبشكل شخصى أعتقد أن شريحة واسعة من الذين يصوتون للإسلاميين لا يريدون هذه النماذج.

■ عادت «فزاعة الإسلاميين» مرة أخرى كما يقول البعض، بعد تصريحات مثيرة لقيادات التيار الدينى وبعد الصعود الكبير للإخوان المسلمين.. فكيف تقرأ هذا الطرح؟

- فى البداية كان الإخوان موحدين، ولديهم برنامج سهل وفضفاض، بسبب الضغوط الأمنية، لكن مشكلة الإخوان حالياً فى الشارع، ولا يستطيعون أن يقولوا شيئا ويفعلوا نقيضه، طبعا بعضهم يفعل ذلك لكن هناك وسائل إعلام تنشر، «وإنترنت» يحتوى على أرشيف، وشارعاً يتعلم بسرعة، وأتمنى أن يصل الإخوان للحكم لنعرف ما هى برامجهم الحقيقية.

أظن أن المناخ الديمقراطى هو الأهم ولا يجوز أن يقال إن الجيش هو الضامن للدولة المدنية، فالشعب هو الضامن الوحيد للديمقراطية.

■ هناك انتقادات متبادلة بين الليبراليين والإسلاميين حول الديمقراطية.. هذا الجدل الحاد كيف تفسره؟

- ليس هذا هو الحوار الأهم رغم أنه يظهر أمام الناس للأسف كأنه حلبة الصراع الوحيدة، وأعتقد أن الليبراليين والإسلاميين سعداء بهذا الصراع الوهمى، كى لا يجيبوا عن أسئلة تتعلق بالاقتصاد والتغيرات الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة، وحتى ما معنى الديمقراطية، وطرق تطبيقها، وما معنى الدولة المدنية، فليس هناك نموذج موحد لها يمكن استنساخه.

وحتى مع اعترافنا بأن هناك مشكلة فى المستوى الثقافى للجمهور، وهناك حاجة لعملية تثقيف واسعة، لكن وبكل الأحوال لا يجوز أن يعتقد أحد أن عليه أن «يربى» الشعب أولا ٢٠ سنة ثم «يعطيه» الحق فى اتخاذ القرار.

■ طرح وجود المجلس العسكرى وحكومة شرف معاً تساؤلات حول ازدواج السلطة فى مصر.. إلى أى مدى تعتقد فى هذا التناقض؟

- هناك تناقضات داخل كل سلطة، فحتى المجلس العسكرى ليست لديه رؤية موحدة حول العديد من الأمور، مثلا ما هو موقفه حول الرواتب، والموازنة العامة للدولة، والتنمية الاقتصادية؟ ربما تكون لديه مواقف عامة لكن ليس أكثر من ذلك، أيضا داخل الحكومة الحالية هناك تناقضات مماثلة واختلاف فى الرؤى، لأنه لا يوجد اتجاه عام أو خطة واضحة.

■ هذا يجرنا لسؤال آخر، حول أداء الحكومة خاصة فى موضوع الاقتراض من الخارج لسد العجز فى الموازنة.. كيف تقيم تلك الخطوة؟

- يجب أولا أن نعرف الدور السيئ الذى قامت به المؤسسات الدولية المانحة مثل البنك الدولى وصندوق النقد فيما يتعلق بمصر، ولنعد لما كانوا يكتبونه عن انتعاش الاقتصاد فى عهد مبارك، ودعمهم للنظام السابق وهم يعرفون جيدا ماذا يجرى على الأرض. هنا على شباب الثورة أن يكون لهم موقف واضح تجاه تلك المؤسسات التى دعمت الديكتاتورية، وهذا التأييد لم يكن سياسيا فقط بالتقارير، لكنه كان تأييدا اقتصاديا أيضا.

ثانياً تلك المؤسسات الدولية تضع خططا وشروطا ليست بالتأكيد حقائق علمية مسلماً بها، فالعالم كله رأى كيف فجرت قرارات البنك الدولى وغيره الأزمة الآسيوية فى التسعينيات، ومعظم دول آسيا قطعت علاقتها بتلك المؤسسات والجهات، ورفضت اتفاقية واشنطن حول الليبرالية الاقتصادية، وحققت تقدما مهما.

■ هل مصر فى وضع يسمح لها بأن تأخذ قراراً مماثلاً لما فعلته الدول الآسيوية؟

- علينا أن نعترف بأن وضع مصر الاقتصادى صعب، لكن هذا لا يمنع أن تكون لدى حكومة القاهرة رؤية واضحة، وأن تتفاوض بشراسة، ولا تقبل كل الشروط.

لكن هناك ملامح تثير القلق، مثلا فى مصر الآن نقاش ضخم حول الضرائب، وهذا نقاش غريب فى الحقيقة، فحتى فى الدول الرأسمالية الكبرى، تُفرض ضرائب تصاعدية، لكن فى مصر يثور البعض حين تقول الحكومة إنها سوف تفرض ضريبة ٢٠ أو ٢٥% على من يصل دخله إلى ١٠٠ ألف جنيه، وهذا غير منطقى ففى فرنسا مثلا إذا تجاوز دخلك مبلغا بعينه تدفع ٥٠% منه ضرائب للدولة التى تعيده للفقراء فى صورة خدمات.

■ هناك محللون تخوفوا من موجة الدعم الاقتصادى المعروضة على مصر من دول غربية باعتبارها محاولة لإيجاد قدم فى «مصر الثورة».. هل تتفق مع هذه الرؤى؟

- بتقديرى ليست مشكلة أصلا أن تحاول بعض الدول إيجاد موطئ قدم، فهذا أمر طبيعى لأن كل الدول تتحرك حسب مصالحها، ومصر دولة مهمة للغاية، لكن المشكلة أننى لا أشعر بأن هناك حكومة مصرية لديها خطة واضحة فيما يتعلق بالاقتصاد تتفاوض على أساسها وتأخذ ما تريد وترفض ما لا يناسبها. وما أخشاه أن تأخذ الحكومة المصرية المواقف الاقتصادية للولايات المتحدة باعتبارها «مواقف مبدئية»، وهذا طريق سيؤدى لأن تخسر مصر كثيراً.

■ بمناسبة الضرائب كيف تفسر تراجع الحكومة السريع عن الضريبة الجديدة؟

- فكرة الضرائب كانت مفيدة جدا للاقتصاد المصرى، لكن الحكومة تراجعت بسرعة، وبشكل شخصى حين وصلت إلى مصر اندهشت من الحديث بفزع عن محورى الأمن والاقتصاد، وشخصيا مصر من أكثر الدول التى أشعر فيها بالأمان، والقاهرة مثلا من العواصم القليلة جدا التى يمكنك أن تخرج فيها فى وقت متأخر من الليل للشارع وتعود سالما.

أما عن الاقتصاد فهناك مشاكل، ربما ورثتها الحكومة مما قبل الثورة، لكن إثارة فزع الشعب من الاقتصاد رسالة هدفها النهائى أن يعود المواطنون إلى منازلهم، فالثورة انتهت، وهذا أسلوب لا يحل المشاكل الاقتصادية.

■ وسط هذه الظروف هل تعتقد أن «مصر الثورة» قادرة على شق طريق اقتصادى مختلف وتفادى ضغوط الدول الكبرى؟

- الثورة المصرية حدثت فى عالم يتغير وهذا شىء مهم جدا ومفيد لمصر، فلسنا فى التسعينيات حيث كان هناك النموذج الاقتصادى الأمريكى وحده، أما الآن فلدينا نماذج بعيدة عن اتفاقية واشنطن الاقتصادية، مثل الصين والهند والبرازيل وهى قوى اقتصادية صاعدة ومميزة، لذلك هناك إمكانية لدولة بحجم مصر أن تقرر مستقبلها الاقتصادى.

طبعا العلاقات الاقتصادية مع أوروبا وأمريكا مهمة، لكن هناك خيارات أخرى، فلابد أن تستوعب مصر هذا التغير الاقتصادى التاريخى، وهذا مهم للغاية لدعم الثورة المصرية، وعلى الثوار أن يعرفوا أنهم فى عالم جديد، وأن يتعاملوا على هذا الأساس.

■ أليس غريبا أن يختفى اليسار فى مصر فى الوقت الذى تتصاعد فيه مطالب شعبية هى بالأساس على أجندته؟

- بالتأكيد اليسار المصرى خسر للغاية. فتجربة حزب التجمع ومواقفه المؤيدة للنظام أدت لخسارة حقيقية، لكن هناك حركات يسارية كانت مشاركة فى الثورة ومن البداية، وكذلك هناك النقابات المستقلة، وأرى محاولات تطور فى القطاع العمالى، وربما تكون لاعبا مؤثراً، لكن المشكلة أنه حتى الآن لا يوجد برنامج شامل لحقوق العمال والفلاحين يرفعه اليسار.

■ بالنسبة للعمال هم الآن فى مرمى سهام «الفئوية» وهناك قانون لتجريم الاحتجاجات طرحته حكومة جاءت عبر احتجاج أصلا.. كيف تقرأ هذا الملف؟

- لنبدأ بما يسمونها مطالب فئوية، هل من المعقول أن نعتبر مطالبة عامل فقير بأجره مطلب فئوى يجب تأجيله؟ فى الوقت الذى يرفض فيه رجال الأعمال دفع ضرائب للدولة ويهددون بمؤشر البورصة رغم أنه ليس معبرا عن الاقتصاد المصرى، فتستجيب الدولة وتلغى الضريبة فى ٢٤ ساعة.

■ وماذا عن تحرك العمال نقابيا.. لدينا الآن اتحاد رسمى وآخر مستقل، واتحاد أعلنت قيادات الإخوان عزمهم تأسيسه تحت عنوان اتحاد عمال الإخوان المسلمين؟

- الأصل أن هذه نقابات للعمال، ولا يجب أن تكون خاضعة لحزب بعينه، وأتوقع أن ينتهى اتحاد العمال الحكومى، وألا تنجح نقابة عمال الإخوان، أما النقابات الحرة فلديها فرصة، وقد قابلت بعضا من العمال هنا ولديهم وعى جيد جدا فيما يتعلق بالمطالب وحتى بتاريخ الحركة العمالية فى مصر المستمر منذ نحو قرن كامل.

وببساطة إذا أراد اليسار أن يكون له دور بين التيارين الليبرالى والدينى فعليه أن يعود لدوره الحقيقى وسط العمال.

■ لنبتعد قليلا عن الاقتصاد ولنتحدث عن الإعلام.. كيف تقرأ المشهد الإعلامى المصرى بعد الثورة؟

- المشهد اتسع، لكن ما يشغلنى الآن هو مصير المؤسسات الصحفية القومية، فمن النظرة الأولى على الخريطة الإعلامية تجد أن هناك فضائيات، وإعلاماً مستقلاً، لكن الكتلة القومية التى كانت تؤيد مبارك أصبحت تؤيد المجلس العسكرى، وفى مصر يقولون «اللى يتجوز أمى أقوله يا عمى»، ومصير المؤسسات القومية والتليفزيون الحكومى هو ما يشغلنى الآن.

■ هناك انتقادات حادة موجهة للإعلام، والمجلس العسكرى فى آخر بياناته ينتقد وسائل الإعلام ويطالبها بتحرى الدقة، ومؤخرا أحيل ٣ صحفيين للنيابة العسكرية.. هل الإعلام على أبواب مأزق جديد مع السلطة؟

- كما قلت لك المشهد اتسع، ولم يعد بمقدور أحد أن يفكر فى الإعلام بطريقة الستينيات، والمجلس العسكرى والجنرالات من جيل مبارك لا يتصورون كيف يمكن لشاب فى العشرينيات أن يقف فى مؤتمر وينتقدهم بشجاعة.

لكن لابد أن نعترف بأن الصحافة المصرية لديها مشكلات عميقة، فما ينشر اليوم تكذبه الصحف غداً، وعلى الإعلاميين أن تكون لديهم ثقافة التأكد من المصادر، فإذا قال أحد شباب تنظيمات الثورة إنه يؤيد مظاهرة ما تخرج الصحف فى اليوم التالى لتعلن تأييد شباب الثورة للمظاهرة أو الاحتجاج، وهذا أمر غير دقيق أبدا ويحتاج كما قلت لثقافة التأكد من المصادر.

■ أصبح مستخدمو الإنترنت فى مصر نحو ٢٣ مليوناً، وبدأت المصادر الرسمية تتراجع لصالح صحافة أقرب لصحافة المواطن خاصة على الإنترنت.. هل يتراجع دور الصحفى؟ وهل الصحافة قادرة على تطوير أدواتها لتستوعب هذا الزخم الجديد؟

- انتشار الإنترنت واستخدامها بكثافة مصدر جديد للأخبار، وهذا لا يثير القلق، نعم على الميديا أن تتطور، ونعم هناك دور متزايد للصحفى المواطن، لكن لنقل إن الأفراد كانوا دائما صانعى الأحداث، فيما كانت وسائل الإعلام التقليدية تتعامل مع المصادر الرسمية أكثر وتركز عليها. هذه المعادلة سوف تتغير بالتأكيد، لكن دور الصحفى سيظل موجودا بلا شك فهو الذى ينقل الخبر، ويعرض وجهات النظر المختلفة، وهو من يقرر إبراز خبر بعينه أو معلومة بعينها.

مشاركة مميزة

مدونة نهضة مصر