‏إظهار الرسائل ذات التسميات طاعة اللة وطاعة الرسول. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات طاعة اللة وطاعة الرسول. إظهار كافة الرسائل

السبت، يونيو 18

طاعة اللة وطاعة الرسول

كتاب "التأدب مع الرسول في ضوء الكتاب والسنة" [الجزء الرابع]


الفصل الثالث
الأدب العملي

في بداية هذا الباب قسمت الأدب إلى ثلاثة أنواع وذكرت في الفصلين السابقين نوعين منها وهما الأدب القلبي والأدب القولي، وفي هذا الفصل سوف أتحدث عن النوع الثالث والأخير وهو الأدب الفعلي والعملي، ونقصد بالأدب العملي الأدب الذي يتعلق بالجوارح، ويكون عمليًا محسوسًا. وبذا يتكون هذا الفصل من مبحثين:
المبحث الأول: الطاعة والاتباع.
المبحث الثاني: مجالسته صلى الله عليه وسلم.



المبحث الأول
الطاعة والاتباع

وردت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم مرّات كثيرة بصيغ مختلفة، حيث جاءت أمرًا بطاعته ونهيًا عن مخالفته، وإخبارًا بأن طاعته صلى الله عليه وسلم يترتب عليها ثوابًا عظيم في الدنيا والآخرة.
والصيغ التي تدل على أنّ طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة على الأمة هي صيغتا الأمر بطاعته والنهي عن مخالفته أو ما يجري مجراهما من تحذير عن مخالفته أو توعد بعقاب لمن يخالف.
وأمّا الصيغة الأولى وهي الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد وردت في القرآن الكريم مقترنة بطاعة الله مع تكرير الفعل "أطيعوا" مرة مع الله، ومرة مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59].
ومرة بعدم تكرير الفعل مثل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1].
ولكل من التعبيرين مدلول خاص كما ذكر المفسرون قائلين: إذا كان الفعل أطيعوا متكررًا يفيد على أن للرسول صلى الله عليه وسلم نوع استقلال من الطاعة مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59].
يقول الألوسي رحمه الله في تفسيره هذه الآية: "وأعاد الفعل وإن كانت طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله تعالى اعتناء بشأنه عليه الصلاة والسلام وقطعًا لتوهم أنه لا يحب امتثال ما ليس في القرآن وإيذانًا بأن له صلى الله عليه وسلم استقلالاً بالطاعة لم يثبت لغيره من البشر ومن ثم لم يعد في قوله سبحانه: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] إيذانًا بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم[1].
وقد حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا المفهوم الخاطئ وهو الاكتفاء بما جاء في القرآن دون الرجوع إلى السنة المبينة للقرآن الكريم بقوله صلى الله عليه وسلم.
"لا ألفين أحدًا متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه"[2].
وفي رواية المقدام زيادة: "ألا وإن ما حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله"[3].
وأمّا إذا كانت الفعل غير متكرر مثل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1]. فيفيد أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعة الله تعالى.
يقول الألوسي رحمه الله في تفسيره هذه الآية: "وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى أولاً وآخرًا لتعظيم شأنه وإظهار شرفه والإيذان بأن طاعته عليه الصلاة والسلام طاعة الله تعالى، وقال غير واحد أنّ الجمع بين الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أولاً لأن اختصاص الله تعالى بالأمر والرسول صلى الله عليه وسلم بالامتثال"[4].
ومما يدل على هذا المعنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال:20]. حيث أفرد الضمير وأعيد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم دون الله عز وجل بعد الأمر بطاعتهما معًا لأنّ الضمير يرجع إلى أقرب المذكور كما هو معروف في علم النحو للإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو الوسيلة بين الله وبين خلقه في تبليغ مراد الله تعالى وبيانه، وأنّ طاعته صلى الله عليه وسلم طاعة لله على غرار قوله تعالى: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
يقول الألوسي رحمه الله: "وأعيد الضمير إليه عليـه الصلاة والسلام لأنّ المقصود طاعته صلى الله عليه وسلم وذكر طاعة الله توطئة لطاعته وهي مستلزمة لطاعة الله تعالى لأنّه مبلغ عنه فكان الراجع إليه كالراجع إلى الله تعالى"[5].
ومن هذه النماذج التي ذكرناها سابقًا في موضوع طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يتبين لنا أنّ طاعته صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم في كل أمر من الأمور سواء كان ذلك الأمر ثبت بالقرآن أو بالسنة لأنّ طاعته طاعة الله تعالى كما يدل عليه قوله تعالى: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] ولأنه صلى الله عليه وسلم لا يتكلم عن الهوى وإنما عن وحي من الله سبحانه وتعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:34].
ويدخل في مفهوم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعه لأنّ مدلول الاتباع والطاعة يكادْ يكون واحدًا حيث أنها من المترادفات وشأن المترادفات أن يكون معناها واحدًا مع وجود فروق طفيفة مثل كلمتي قعد وجلس حيث أن الأولى من الاضطجاع والثانية من القيام مع أنّ مدلولهما واحد.
وهكذا شأن كل المترادفات، وأما كلمتي الاتباع والطاعة، فقد ذكر أبو هلال العسكري عند كلامه عن الفرق بين العبادة والطاعة أنّ مدلول الاتباع والطاعة واحد فقال: "والطاعة الفعل الواقع على حسب ما أراده المريد متى كان المريد أعلى رتبة ممن يفعل ذلك وتكون للخالق والمخلوق والعبادة لا تكون إلا للخالق، والطاعة في مجاز اللّغة تكون اتباع المدعو والداعي إلى ما دعاه إليه وإن لم يقصد التبع كالإنسان يكون مطيعًا للشيطان وإن لم يقصد أن يطيعه ولكنّه اتبع دعاءه وإرادته "[6].
وكلام أبي هلال العسكري يفيد أن الاتباع والطاعة يؤديان معنى واحدًا تجوزًا كما أنّهما يكونان عن قصد وعن غير قصد، وحديثي هنا يدور حول الاتباع والطاعة التي يكون عن قصد وإرادة من صاحبها مع نيّة صالحة لأنّ المنافق هو الذي يظهر اتباع الرسول ويبطن مخالفته، وعلى هذا نفى الله سبحانه وتعالى عنهم سمة الإيمان في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47].
ومع أن الاتباع والطاعة معناهما واحد كما ذكرنا إلاّ أننا نذكر هنا النصوص التي وردت بصيغة الاتباع أو ما يجري مجراها.
وقد وردت نصوص كثيرة من القرآن والسنة التي تأمرنا تارة باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتارة باتباع طريقة الله التي هي طريقته وتارة باتباع القرآن.
من الآيات التي تدل على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31].
وقوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158].
وأمّا ما يدل على وجوب اتباع طريقة الله التي هي طريقته فمنه قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
وقد ورد في السنة ما يبين معنى هذه الآية وهي ما أخرجه الحاكم في مستدركه عن عبد الله هو ابن مسعود[7] قـال: خـط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا بيده ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيمًا وخط عن يمينه وشماله خطوطًا ثم قال: "هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعوا إليه ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
وأمّا ما يدل على وجوب اتباع القرآن فمنه قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155][8].
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: " فيه الدعوة إلى اتباع القرآن يرغب سبحانه عباده في كتابه ويأمرهم بتدبره والعمل به والدعوة إليه ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والآخرة "[9].
ومجموع هذه النصوص من القرآن والسنة التي أوردناها في موضوع الاتباع كلما تفيد على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كانت تتعلق باتباع سبيل الله أو اتباع القرآن لأن اتباع سبيل الله اتباع سبيله صلى الله عليه وسلم لأنه هو الداعي إلى ذلك.
قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
وكذلك فاتباع القرآن هو اتباعه صلى الله عليه وسلم لأنّه هو المبلغ عن الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67].
هذا ما يتعلق بموضوع وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه الواردة بصيغة الأمر، وأمّا الآن فسوف نتحدث عن وجوب الانتهاء عن مخالفته صلى الله عليه وسلم وهي طريقة أخرى لوجوب اتباعه لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وكذلك العكس.
وقد ورد في هذا المعنى آيات كثيرة: منها قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
ومنها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا} [الأحزاب:36].
ومنها قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
ومجموع هذه الآيات التي أوردناها تدل على حرمة مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا المعنى أي مخالفة أمره التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1].
وقد ذكر المفسرون عدة أسباب لنزول هذه الآية التي تبين المعاني المختلفة للتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الأوجه التي يحصل بها التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم.
منها كما ذكر ابن العربي: أنّ قومًا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا وكذا فأنزل الله هذه الآية.
ومنها نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه.
ومنها لا تفتاتوا على الله ورسوله في أمر حتى يقضي الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنها أنها نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يعيدوا الذبح.
ومنها لا تقدموا أعمال الطاعة على وقتها[10].
قال القاضي: "هذه الأقوال كلها صحيحة تدخل تحت العموم فالله أعلم بما كان السبب المثير للآية ولعلها نزلت دون سبب"[11].
وقال أيضًا: "هذه الآية أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وإيجاب اتباعه والاقتداء به "[12].
نعم، هذه الوجوه المذكورة في أسباب نزول الآية محتملة وكلها تفسر الآية من زاوية معينة، كما أنّها تحتمل وجوهًا أخرى لم يذكرها ومجمل معناها هو وجوب الانتهاء عن التقدم بين يدي الله ورسوله في كل أمر من الأمور حتى يقضي الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في حال حياته، وأمّا بعد مماته فمعناها وجوب الانتهاء عن التقدم بين يدي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمر من الأمور الدنيوية والأخروية.
يقول ابن القيم رحمه الله: "ومن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف حتى يأمره وينهي ويأذن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1].
وهذا باق إلى يوم القيامة لم ينسخ، فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته ولا فرق بينهما عند كل ذي عقل سليم "[13].
وممّا يدخل في هذا المعنى أي التِقدم بين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم تقديم القوانين الوضعية على الشريعة الإسلامية في هذا العصر حتى لو لم يصرّح واضعو هذه القوانين أو الذين استوردوها أنها أفضل من الشريعة الإسلامية أو لا، لأن مجرد إقصاء الشريعة الإسلامية عن الحياة البشرية ووضع القوانين الوضعية مكانها وإجبار الناس على التحاكم إليها والتوعد لمن يخالفها بالعقاب الشديد وإن خالفت الشريعة الإسلامية مخالفة صريحة كما هو مشاهد في واقعنا اليوم، وكذلك إذا وافقت الشريعة الإسلامية لاختلاف مصدر تلقيهما لأن هذه مصدرها هو الله سبحانه وتعالى وبواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك مصدرها الطاغوت وهوى النفس الأمارة بالسوء وإن زعم أصحابها أنهم يؤمنون بالله ورسوله مئات المرات.
وكيف يكون لهم إيمان بعد قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
يقول الشنقيطي في تفسيره الآية التي نحن بصددها: "وهذه الآية الكريمة فيها التصريح بالنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله ويدخل دخولاً أوليًا تشريع ما لم يأذن به الله وتحريم ما لم يحرمه وتحليل ما لم يحلله لأنه لا حرام إلاّ ما حرمه الله ولا حلال إلا ما حلله الله ولا شرع إلا ما شرعه الله "[14].
ويقول الإمام ابن كثير رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
"ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهـداف والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يصنعونها بآَرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم "جنكيز خان" الذي وضع لهم "الياسق" وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بيئته شرعًا متبعًا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم في سواه في قليل ولا كثير"[15].
ثواب الاتباع والطاعة: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه يترتب عليها ثواب كثير في الدنيا والآخرة.
وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على ذلك نذكر طرفًا منها.
من ذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة له {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
كما أنه سبحانه وتعالى جعل طاعته شرطًا للهداية: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54].
وجعل طاعة الرسول أيضًا شرطًا لدخول الجنة.
{وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [النساء:13].
كما أنها تؤدي إلى مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة.
يقول تعالى: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]. كما أنه يترتب عليها الفوز العظيم في الدارين.
يقول تعالى: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
ويقول الله تعالى أيضًا: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} [النور:52] كما أنها تكون سببًا لرحمة الله لقوله تعالى: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ} [التوبة:71].
سلوك السلف في الاتباع: تعد الجماعة الأولى التي تلقت الدين وأخذته من رسول الله مباشرة خير من قام بما شرع لها من طاعة واتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"[16].
وإنّي هنا أحاول إبراز بعض الصور التطبيقية للطاعة والاتباع لتكون أمثلة توضح ما شرع للمسلمين في هذا الجانب الهام. وسأجعل هذه الأمثلة مرتبة على النحو التالي:
أولاً: سلوكهم في الاتباع وهم جماعة: أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منّا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدًا منهم "[17].
وهذا الحديث يدل دلالة واضحة على مدى إسراع الصحابة رضوان الله عليهم في تنفيذ أمره صلى الله عليه وسلم باذلين في ذلك أقصى الجهد.
ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني اتخذت خاتمًا من ذهب فنبذه وقال: إنّي لن ألبسه أبدًا، فنبذ الناس خواتيمهم"[18].
وهذا الحديث أيضًا يدل دلالة واضحة على مدى إسراع الصحابة رضوان الله عنهم في اتباع فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ولو لم يأمرهم بفعل ذلك الفعل وبدون أن يسألوا العلة في ذلك أو أنّ ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم أو يعم الأمة جميعًا.
ومن ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة وقد أمر أن يستقبل الكعبة
فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة "[19].
وفي هذا الحديث يدل دلالة واضحة على مدى استجابة الصحابة لأوامر الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أثناء الصلاة دون تردد أو إبطاء وبدون استفسار أو تأخير.
ومن ذلك ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فصلوا بصلاته، فلمّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلمّا قضى الفجر أقبل على الناس ثم قال: "أمّا بعد فإنّه لم يخف عليّ مكانكم ولكنّي خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها"، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك[20].
وهذا الحديث أيضًا يدل على أنّ الصحابة رضوان الله عنهم كانوا يحرصون على الاقتداء بالمصطفى صلى الله عليه وسلم في كل فعل من أفعاله إذا لم يكن هناك خصوصية حتى ولو لم يأمرهم بذلك الفعل.
وهذه النصوص التي ذكرناها نموذج لاستجابة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بفعله وتنفيذ أمره جماعة، ولكن هناك نصوص أخرى كثيرة تدل على ذلك يصعب حصرها في هذا المقام.
ثانيًا: ما يفيد أيضًا سلوك السلف في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فرادى: من ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عمر رضي الله عنه "أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: إنّي أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك"[21].
وهذا الحديث يدل دلالة واضحة أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه صرح بـأنّ تقبيلـه للحجر الأسود هو مجرد التأسّي بالنبي صلى الله عليه وسلم مع إيمانه ويقينه أنّه لا يضر ولا ينفع لذاته.
ومن ذلك ما أخرجه البخاري أيضًا في صحيحه عن مروان بن الحكم قال: "شهدت عثمان وعليًا رضي الله عنهما وعثمان ينهى عن المتعة [22] وأن يجمع بينهما فلمّا رأى علي أهل بهما لبيك بعمرة وحجة قال: ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد"[23].
وهذا يدل على أنّ الصحابة رضي الله عنهم يقدمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم على أي قول صدر من غيره مهما كانت رتبته كما فعل علي رضى الله عنه مع عثمان بن عفان رضي الله عنه في هذا الأمر الذي اختلفت وجهة نظرهما لأنّ عثمان بن عفان رضي الله عنه وإن كان أميرًا للمؤمنين آنذاك إلا أن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق كل شيء.
ومن ذلك أيضًا ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن وبرة قال: كنت جالسًا عند ابن عمر فجاءه رجل فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف؟ فقال: نعم. فقال: فإن ابن عباس يقول: لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف فقال ابن عمر: فقد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف [24]، فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن نأخذ أم بقول ابن عباس أن كنت صادقًا[25].
وهذه أيضًا حادثة أخرى اختلفت فيها وجهة نظر الصحابة رضي الله عنهم ومضمونها يؤكد حرص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ثبتت وترك قول أي أحد من الناس مهما كانت رتبته إذا كان ذلك القول يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا أنكر ابن عمر رضي الله عنهما على السائل حينما ذكر فتوى ابن عباس رضي الله عنه بعد إخباره ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام، ورحم الله الإمام مالك حينما قال: "ما من قول أحد إلا ويؤخذ قوله ويترك إلا صاحب ذلك القبر يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه القاعدة هي الفيصل في هذا الموضوع.
وأما المراجعات التي وقعت بينه صلى الله عليه وسلم وبين الصحابة رضوان الله عليهم في بعض الأمور أثناء حياته فلا يعتبر قدحًا في اتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ هذه المراجعات كانت مجرد استفسار لبعض الأمور التي لم يتضح لهم الغرض منها أو التبست عليهم أو لم يستسيغوها في أول الأمر ظنًّا منهم أنّهم لا يقدرون على تحملها غيرة للرسول صلى الله عليه وسلم وللإسلام لا للاستهزاء أو الانتقاص من توقير الرسول صلى الله عليه وسلم بخلاف ما كان يفعله المنافقون لعنهم الله تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء به وبرسالته والانتقاص من توقيره صلى الله عليه وسلم متسترين تحت ما أظهروا من الإسلام.
وقد قسّم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه المراجعات للرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقسام حيث قال:
"وبالجملة فالكلمات في هذا الباب ثلاثة أقسام: أحدهما: ما هو كفر مثل قوله: إنَّ هذه القسمة ما أريد بها وجه الله.
الثاني: ما هو ذنب ومعصية يخاف على صاحبه أن يحبط عمله، مثل رفع الصوت فوق صوته، ومثل مراجعة من راجعه عام الحديبية بعد ثباته على الصلح [26]، ومجادلة من جادله يوم بدر بعد ما تبيّن له الحق [27]، وهذا كله يدخل في المخالفة عن أمره.
الثالث: ما ليس من ذلك بل يحمد عليه صاحبه أو لا يحمد كقول عمر: ما بالنا نقصر الصلاة وقد آمنا [28]؟ وكقول عائشة: ألم يقل الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71]، وكمراجعة الحباب في منزل بدر[29].
ونحو ذلك ممّا فيه سؤال عن إشكال ليتبين لهم، أو عرض لمصلحة قد يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم"[30].
المقالة الأولى: من هذه الأقسام لم تصدر عن الصحابة رضوان الله عليهم وإنّما صدرت عن بعض المنافقين الذين كانوا مع الصحابة ظاهرًا لا باطنًا لأنّ هذه المقالة هي عين ما حكاه الله سبحانه وتعالى عنهم في كتابه كقوله تعالى: {وَمِنْهُم مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58].
وأما المقالة الثانية: فقد صدرت من بعض الصحابة رضوان الله عليهم عن غفلة أو اجتهاد أو عن عجلة إلا أنهم لم يصرّوا على خطأهم وإنما تنازلوا عن رأيهم الذي رأوه إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إيمانًا منهم ويقينا أنّ ما ذهب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو الصواب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فهذه أمور صدرت عن شهوة وعجلة لا عن شك في الدين"[31].
وأما المقالة الأخيرة: فقد صدرت من الصحابة أيضًا رضوان الله عليهم ولكنّها لا تعتبر ذنبًا ولا معصية أو مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنّما الاستفسار عن دين الله عز وجل وطلب المزيد من التفقه إيمانًا منهم بأنّ مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم هي التبيين لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44] كما أنّها صدرت منهم لأجل الإشارة لبعض الأمور إذا كان المقام يتطلب المشورة لأن الله تعالى يقول: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159].
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وكانت المراجعة المشهورة منهم لا تعدو إمّا لتكميل نظره صلى الله عليه وسلم في ذلك إن كان من الأمور السياسية التي للاجتهاد فيها مساغ، أو ليتبين لهم وجه ذلك إذا ذكر، ويزدادوا علمًا وإيمانًا، وينفتح لهم طريق التفقه فيه"[32].



المبحث الثاني
في مجالسته صلى الله عليه وسلم

ذكرنا في المبحث الأول من هذا الفصل جانبًا من جوانب الأدب العملي وهو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه. وأمّا في هذا المبحث فسوف نتناول جانبًا آخر من جوانب الأدب العملي وهو الأدب المتعلق بمجالسة الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما ينبغي للمسلم أن يفعل نحو مقام النبوة، أثناء حضوره عنده صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك في بيته أو في الأماكن العامة مع أنّ بعض هذه الآداب لا تتأتى إلا في حال حياته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضوان الله عليهم.
وننظر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم من زاويتين:
الزاوية الأولى: في حال وجوده في بيته مع نسائه.
الزاوية الثانية: في حالة وجوده في الأماكن العامة.
الزاوية الأولى: وهي حالة وجوده صلى الله عليه وسلم في بيته مع نسائه: في هذه الحالة ينبغي أو يجب على المسلم تجاه مقام النبوة عدم إزعاجه سواء في الحضور عنده بغير إذن أو الجلوس في بيته فترة من الزمن والانشغال بالحديث بعد انتهاء الغرض الذي من أجله أذن له لما يترتب عليه من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم في حين أنه لا يقدر أن ينبه على من تصدر عنه هذه الأفعال حياء منه كما تشير إليه الفقرة الأولى من آية الحجاب، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ} [الأحزاب:53].
من هذه الفقرة من الآية الكريمة يتبين لنا عدة أمور مرغوب عنها في المجتمع الإسلامي وخاصة في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: دخول البيوت بغير إذن والتطفل أو انتظار نضج الطعام والمكث في البيوت بعد انتهاء الغرض الذي من أجله أذن لهم.
وهذه الأمور التي ذكرنا هي أمور ينبغي أن يطهر من المجتمع الإسلامي في ذلك الحين وإلى الأبد لأنها من الأمور المتبقية من العادات الجاهلية التي لا تتمشى مع روح الإسلام السامية.
قال ابن عطية في تفسير هذه الآية: "وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في النهي سائر المؤمنين والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلاّ بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار الطعام"[33] وخلاصة القول: الآية تشير إلى أنّه يجب على المسلم أن لا يتطفل على النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يحضر عند نضج الطعام فيشارك فيه لأنه ربما أعد الطعام لأناس معدودين وأنّ زيادة العدد قد تضر صاحب البيت وتحمله على تقديم شيء زائـد ربما لا تكون في حوزته وأما إذا أذن للطعام فعلى المسلم أن لا يأتي قبل نضج الطعام بل في وقت مناسب لأن أهل البيت مشغولون بإعداد الطعام وقد يحمل الحضور قبل نضج الطعام على الإسراع في إعداد الطعام كما هو المألوف، وكذلك إذا حضر في الوقت المناسب فعليه أن يخرج من البيت بعد الطعام لا أن يمكث فترة للحديث والاستئناس مع غيره لأنَّ ذلك يؤدي إلى مضايقات لأهل البيت والاستماع إلى ما يجري في البيت من كلام أو إلى النظر إلى ما لا ينبغي أن ينظر قصدًا أو بغير قصد ولا سيما إذا كان هناك منافقون.
وأمر واحد من هذه الأمور المذكورة ممّا يتأذى به صاحب كل بيت عادة فما بال إذا كانت مجتمعة مع أنّه لا يقدر أن يفصح بها حياء منه كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الرهط الذين تخلفوا في البيت بعد الطعام عشية بناءه صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها كما يظهر من بعض الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أنا أعلم الناس بهذه الآية آية الحجاب لما أهديت زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معه في البيت، صنع طعامًا دعا إليه القوم فقعدوا يتحدثون فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53]. فضرب الحجاب وقام القوم "[34].
وفي رواية أخرى: " وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء "[35].
ومن هنا نقول: إنّ الله سبحانه وتعالى قد أعطى اهتمامًا كبيرًا حال وجود النبي صلى الله عليه وسلم في بيته مع نسائه، أخذًا من هذه الآية وغيرها من الآيات الأخرى التي جاءت لمناسبات شتى.
من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:45].
وقد فصلنا القول في ذلك عند الكلام عن مناداته صلى الله عليه وسلم في الفصل السابق الذي عقدنا للأدب القولي وإن كانت متصلة بالآداب المتعلقة ببيت النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد بسبب نزولها إلا أننا تحدثنا هناك حسب ما يقتضي التقسيم المنهجي لأنها تتعلق بالآداب القولية وهنا الآداب العملية.
وعلى هذا فنكتفي بالإشارة إلى موضعها وإن كانت الآداب كلها مترابطة سواء كانت قلبية أو قولية أو عملية إلا أننا قسمناها إلى ذلك للتوضيح والدراسة.
وقبل أن أنتقل إلى الفقرة الأخيرة من الآية والتي تتعلق بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا بد من الإشارة إلى فقرة تتوسط بين الفقرة الأولى المتعلقة في حياته صلى الله عليه وسلم والفقرة الأخيرة التي تتعلق بعد وفاته وهي الفقرة التي تشير إلى وجوب سؤال أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب أخذًا من قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] لأن سؤالهن قد تكون في حياته صلى الله عليه وسلم وقد تكون بعد وفاته وإنَّ سؤالهن بعد وفاته أولى وخاصة فيما يتعلق بأمور الدين لأنّ جزءًا كبيرًا من الأحكام الشرعية قد وصلنا عن طريقهن.
وهذا الحكم وإن كان يعم النسوة كلهن لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا أن تخصيص الآية بنسائه صلى الله عليه وسلم له مزيته بحيث يتأكد هذا الحكم في جانبهن لارتباطهن بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم خير خلق الله الذي يتأذى بذلك الفعل كما يدل عليه قوله تعالى بعد هذه الجزئية: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب:53].
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المزية لنساء النبي صلى الله عليه وسلم في آية أخرى وهي قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32].
ونأتي إلى الفقرة الأخيرة من آية الحجاب: بينما الفقرة الأولى من هذه الآية تتعلق ببيت النبي ونسائه وقت حياته صلى الله عليه وسلم هذه الفقرة الأخيرة أيضًا تتعلق ببيت النبي ونسائه ولكن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بحيث تنهي المؤمنين نهيًا قاطعًا عن الزواج بإحدى زوجاته بعده على التأبيد كما يدل عليه قوله تعالى: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53].
وكيف يتزوج أحد من المسلمين إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن وصفهن الله تعالى بأمهات المؤمنين بقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6].
يقول الدكتور حسن باجودة في تأملاته: "وبما أن حديث الآية الكريمة في الجزئية السابقة قد صرّح بأنه لا يصح للمؤمنين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا فإنّ الجزئية الكريمة التالية تصرّح بأنه لا يصح أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتًا عن طريق زواج إحدى زوجاته. فقد خص ربّ العزة المصطفى صلى الله عليه وسلم في حياته الزوجية بالعديد من الخصائص التي من بينها هذه الخصيصة وهي، أنّه لا يحل لأحد أن يتزوج إحدى زوجاته لأنهن أمهات المؤمنين كما صرحت بذلك هذه السورة. وكيف يتزوج المرء أمه. لأن منزلة الأمومة لهن رضوان الله عليهن أجمعين بالنسبة لرجال الأمة مستمرة إلى أن يلحقن كلهن بالرفيق الأعلى"[36].
وقد عد المفسرون هذه الآية من الآيات التي تتحدث عن تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًا وميتًا.
يقول الزمخشري في تفسير هذه الآية: "وسمي نكاحهن بعده عظيمًا عنده وهو من أعلام تعظيم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وإيجاب حرمته حيًّا وميتًا، وإعلامه بذلك مما طيب نفسه وسر قلبه واستغزر شكره فإن نحو هذا مما يحدث الرجل به نفسه ولا يخلى منه فكره ومن الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت لئلا تنكح من بعده "[37].
وهذه الآداب التي ذكرناها في هذه الزاوية المتعلقة ببيت النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت وردت في حقه صلى الله عليه وسلم وقت حياته يلتزم المسلمون فيما بينهم أثناء حياته صلى الله عليه وسلم وبعد مماته لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا ما خص به صلى الله عليه وسلم من عدم الاقتران بإحدى زوجاته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم مع أن هذا الحكم لا يمكن تطبيقه بعد لحوقهن بالرفيق الأعلى، وأما وقت حياتهن فكان ملتزمًا به من قبل الموجودين وقتئذ.
الزاوية الثانية: في حالة وجوده في الأماكن العامة: كانت الزاوية السابقة تتعلق بحالة وجوده صلى الله عليه وسلم مع نسائه في بيته وما ينبغي المسلم أن يتجنب عنه من إيذائه صلى الله عليه وسلم من دخول بيته بغير إذن أو عدم الانصراف بعد انتهاء الغرض الذي من أجله أذن له والأمور الأخرى التي فصلناها فأما في هذه الزاوية، فسوف نتحدث عن الأمور التي ينبغي للمسلم أن يرعى تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة وجوده في الأماكن العامة وفي ملأ من الناس. وهذه الحالة العامة تتطلب عدم الخروج من مجلسه إلا بإذن بل البقاء معه إلا لضرورة قصوى وخاصة إذا كان هناك أمر مهم يتطلب المشاورة والاستعانة بأهل الرأي مثل أوقات الحرب والشدة على عكس ما كان مطلوبًا في حالة وجوده مع نسائه في بيته صلى الله عليه وسلم لأنه يقال لكل مقام مقال ولكل مقال مقام، وهنا اختلفت المقالتان لاختلاف المقامين.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى مراعاة مقام النبوة في حالة وجوده في ملأ من الناس في القرآن الكريم وشهد لمن يلتزم مراعاة ذلك الجانب الإيمان بالله ورسوله في أسلوب حصر كأنهم هم المؤمنون وحدهم كما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:62]
ويتبين من نص الآية الكريمة الآداب التي ينبغي أن يراعى بها في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاستئذان إذا نوى أحد أن يخرج منه وإن كان ذلك خلاف الأولى لتذييل الآية بطلب الاستغفار من الرسول لمن يستأذن مع تفويض للرسول صلى الله عليه وسلم قبول الاستئذان وعدمه لمن يشاء تقديرًا للموقف والملابسات المحيطة به.
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية: "ومع هذا يشير إلى مغالبة الضرورة وعدم الانصراف هو الأولى وأن الاستئذان والذهاب فيها تقصير أو قصور يقتضي استغفار النبي صلى الله عليه وسلم للمعتذرين: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:62]. وبذلك يقيد ضمير المؤمن فلا يَستأذن وله مندوحة لقهر العذر الذي يدفع به الاستئذان"[38].
ويدخل تحت هذا المفهوم أي الاستئذان من الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج من مجلسه وقت خطبته صلى الله عليه وسلم وإن كان هناك خلاف حول معنى الأمر الجامع في الآية الكريمة، هل هو في الحرب خاصة أم يعم جميع الاجتماعات الأخرى كالجمعة والعيدين؟ وقد ذهب الإمام ابن العربي إلى القول بأنّ الأمر الجامع مخصوص في الحرب مؤيدًا ما ذهب إليه بأدلة نوردها هنا:
يقول ابن العربي رحمه الله: "وقد روى أشهب ويحيى بن بكير وعبد الله بن عبد الحكم عن مالك أنّ هذه الآية إنّما كانت في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وكذلك قال محمد بن إسحاق.
والذي بيّن ذلك أنّ الآية مخصوص في الحرب أمران صحيحان:
أما أحدهما: فهو قوله تعالى في الآية الأخرى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور:63] وذلك أن المنافقين كانوا يتلوذون ويخرجون عن الجماعة ويتركون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله جميعهم بألاّ يخرج أحد حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك يتبين إيمانه.
وأما الثاني: فهو قوله تعالى: {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:62]. فأي إذن في الحدث والإمام يخطب. وليس للإمام خيار في منعه ولا إيقافه وقد قال: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:62].
فيبين ذلك أنه مخصوص في الحرب التي يؤثر فيها التفرق "[39].
وهناك فريق آخر من العلماء الذين ذهبوا إلى أنّ الأمر الجامع يعم جميع الاجتماعات من حرب وصلاة جمعة وصلاة العيدين وغيرها من الأمور الأخرى التي تقتضي اجتماع المسلمين مع قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هؤلاء الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى حيث يقول في تفسير هذه الآية: "وهذا أيضًا أدب أرشد الله عباده المؤمنين إليه، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك أمرهم الله أن لا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلاّ بعد استئذانه ومشاورته، وأنّ من يفعل ذلك فإنّه من المؤمنين الكاملين "[40].
ويقول الإمام القرطبي رحمه الله بعد إيراده قول الإمام ابن العربي: " القول بالعموم أولى وأرفع وأحسن وأعلى "[41].
وممّا يرجح القول الثاني وهو أنّ الأمر الجامع يعم كل الاجتماعات قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11].
يظهر من سياق هذه الآية أن بعض الصحابة أو جلهم خرجوا من عند رسول الله وهو قائم يخطب لأمور دنيوية بحتة وهي التجارة بحيث آثروا التجارة القادمة إلى المدينة على استماع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا نبههم الله سبحانه وتعالى على أن البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لهم بخلاف ما صدر عنهم الذي لا يليق لمقام النبوة.
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى: " وتشير إلى حادث معين حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبهم في المسجد للجمعة حين حضرت قافلة من قوافلهم التجارية، فما أعلن نبأ قدومها حتى انفض المستمعون منصرفين إلى التجارة واللهو الذي كانت القافلة تحاط به على عادة الجاهلية، من ضرب بالدفوف وحداء وهيصة وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا فيما عدا اثني عشر من الراسخين فيهم أبو بكر وعمر بقوا يستمعون كما تذكر الروايات[42].
والرواية التي تحدد العدد هي ما أخرجه البخاري رحمه الله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال[43]: أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم فثار الناس إلاّ اثني عشر رجلاً فأنزل الله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11].
وخلاصة القول أنّ الآيتين اللتين ذكرناهما في هذه الزاوية ترشدان المسلمين إلى الآداب التي تجب على المسلم أن يتحلى بها في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء قلنا أنّ الأمر الجامع خاص بالحرب أو أنّه يعم كل الاجتماعات، أو أنّ الآية الأولى تتعلق بالحرب بينما الآية الثانية تتعلق بالخطبة وما يجري مجراها.
وهذه الآداب محلها في حال حياته صلى الله عليه وسلم وأمّا بعد مماته فتنتقل إلى ما بعده من الخلفاء الراشدين ومن في حكمهم.
يقول القرطبي رحمه الله: " وظاهر الآية يقضي أن يستأذن أمير الأمرة الذي هو في مقعد النبوة، فإنّه ربما كان له رأي في حبس ذلك الرجل لأمر من أمور الدين"44].

ـــــــــــــــ
الهوامش:
[1] روح المعاني: (5/65).
[2] أخرجه الحاكم في مستدركه (1/108) وقال: "هو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
[3] أخرجه الحاكم في مستدركه (1/109) وصححه.
[4] روح المعاني: (9/164).
[5] روح المعاني: (9/188).
[6] الفروق في اللغة (ص:215).
[7] كما صرح ابن كثير عند تفسير هذه الآية. انظر تفسيره (2/190).
[8] مستدرك الحاكم (2/139)، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
[9] ابن كثير: (2/192).
[10] أحكام القرآن (4/1700) مع التصرف.
[11] المصدر السابق (4/1701).
[12] المصدر السابق (4/17011702).
[13] مدارج السالكين: (2/389).
[14] أضواء البيان (7/614).
[15] تفسير القرآن العظيم: (2/67).
[16] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4/1963).
[17] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم (3/34).
[18] صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم (4/260).
[19] البخاري في كتاب التراويح، باب فضل من قام رمضان (1/343).
[20] صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة (1/375).
[21] صحيح البخاري في كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود (1/278).
[22] يعني التمتع في الحج وهو نوع من أنواع الحج الثلاثة المعروفة.
[23] صحيح البخاري في كتاب الحج في باب التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي (1/272273).
[24] يعني عرفة.
[25] صحيح مسلم في كتاب الحج، باب ما يلزم من أحرم بالحج ثم قدم مكة، من الطواف والسعي (2/905).
[26] مثل قصة عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية وفيها: جاء عمر فقال: ألسنا على الحق وهم على باطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فقال: (بلى) قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟ فقال: (يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدًا)، فرجع متغيظًا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: يا ابن الخطاب، إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يضيعه الله أبدًا ". انظر صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: (إذ يبايعوك تحت الشجرة) (3/190).
[27] يشير إلى قوله تعالى: (يجادلونك في الحق بعدما تبين.). سورة الأنفال: آية (6).
[28] احتجاجًا بقوله تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم.) سورة النساء، آية 101. أجاب صلى الله عليه وسلم عن ذلك: (صدقة تصدق الله بها عليكم) انظر صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها (1/478).
[29] حيث أشار إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يغير المكان الذي نزل فيه أولاً إلى مكان آخر أحسن بالنسبة للأهمية الحربية ووافقه على ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كما في كتب السيرة. انظر السيرة النبوية لابن كثير (2/402).
[30] الصارم المسلول: (ص:119).
[31] الصارم المسلول: (ص:197).
[32] الصارم المسلول: (ص:191).
[33] تفسير القرطبي: (14/225).
[34] صحيح البخاري، كتاب التفسير: باب في قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام) (3/176177).
[35] صحيح البخاري، كتاب التفسير: باب في قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام) (3/176177).
[36] تأملات في سورة الأحزاب (ص:460461) مع التصرف.
[37] تفسير الكشاف: (3/272).
[38] في ظلال القران: (4/2534).
[39] أحكام القرآن: (3/1398).
[40] تفسير ابن كثير: (3/306).
[41] تفسير القرطبي: (12/321).
[42] في ظلال القرآن: (6/3563).
[43] صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة الجمعة (3/202).
[44] تفسير القرطبي: (13/320).

مشاركة مميزة

مدونة نهضة مصر