أسمـاء الله الحسنى » فإني قريب (2)
فإني قريب (2)
* بقلم / ماجد بن أحمد الصغير
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
أما بعد :
فإن قرب الله من عبده في القرآن نوعان :
الأول : قرب الله - سبحانه وتعالى - من داعيه بالإجابة ، ومنه قوله تعالى : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان ) [البقرة :186].
والثاني : قربه من عابده بالإثابة ومن ذلك قوله ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) رواه مسلم ( 482) ، و( أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل ) رواه الترمذي ( 3579 ) وهو حديث صحيح ، فهذا قربه من أهل طاعته وفى الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه : ( قال كنا مع النبي في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) متفق عليه ، فهذا قرب خاص بالداعي دعاء العبادة والثناء والحمد .
وهذا القرب لا ينافي كمال مباينة الرب لخلقه ، واستواءه على عرشه بل يجامعه ويلازمه ، فإنه ليس كقرب الأجسام بعضها من بعض تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، ولكنه نوع آخر ، والعبد في الشاهد يجد روحه قريبة جداً من محبوب بينه وبينه مفاوز تتقطع فيها أعناق المطي ، ويجده أقرب إليه من جليسه كما قيل :
( ألا رب من يدنو ويزعم أنه يحبك والنائي أحبُ وأقربُ ) .
وأهل السنة أولياء رسول الله ، وورثته ، وأحباؤه الذين هو عندهم أولى بهم من أنفسهم ، وأحب إليهم منها يجدون نفوسهم أقرب إليه وهم في الأقطار النائية عنه من جيران حجرته في المدينة ، والمحبون المشتاقون للكعبة والبيت الحرام يجدون قلوبهم وأرواحهم أقرب إليها من جيرانها ومن حولها هذا مع عدم تأتي القرب منها فكيف بمن يقرب من خلقه كيف يشاء وهو مستو على ... والقصد أن هذا القرب يدعو صاحبه إلى ركوب المحبة وكلما ازداد حباً ازداد قرباً ، فالمحبة بين قربين قرب قبلها ، وقرب بعدها ، وبين معرفتين معرفة قبلها حملت عليها ودعت إليها ، ودلت عليها ، ومعرفة بعدها هي من نتائجها وآثارها [1].
ومن آثار معرفة اسم القريب :
الأمن والثقة : فالمؤمن يعيش بقرب الله في أنس وثقة ويقين ، وملاذ أمين ، وحصن حصين مكين ؛ لأنه في معية الله ، ومصاحبته فهو سبحانه القريب منهم في كل أحوالهم وهو الصاحب في أسفارهم حال غربتهم ووحشتهم فالله صاحبهم القريب منهم ( أنت الصاحب في السفر ) رواه مسلم ( 1342 ) ، وهو سبحانه في ذات الوقت خليفته على أهله ( والخليفة في الأهل ) ، وقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام عند السحر في السفر ( ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذاًَ بالله من النار ) رواه مسلم ( 2718 ) .
ومن آثار هذه المعرفة لهذا الاسم :
حصول السكينة والثبات : قال الله تعالى ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذا أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذا يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها ) [ التوبة : 40] ، وقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ( يا أبابكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) متفق عليه . فمن كان الله معه فمعه القوة العظمى التي لا تهزم ، ولقد ربى الله أصفياءه على أن يكونوا على علم بأنه معهم فلما أرسل موسى إلى فرعون الطاغية قائلاً ( اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى ) [طه :42] قال موسى وهارون : ( إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إننـي معكما أسمع وأرى )[طه :45 ] وهذا دواء الخوف وعلاجه من قلوب المؤمنين ، إنه القاهر فوق عباده معنا أسمع وأرى فما يكون فرعون وجنوده وما يصنع حين يفرط أو يطغى ؟ والله معهما يسمع ويرى ) فيذهبان إلى فرعون فيخاطبانه دون خوف ولا وجل فيقولان ( إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من ابتع الهدى )[طه:47] ويختمان الحديث ( إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ) [ طه:48] .
ويوحي الله إلى موسى بالسرى ، ويتبعه فرعون وجنوده ، ويقترب المشهد من نهاية وتصل المعركة ذروتها ، ويقف موسى أمام البحر ليس معهم سفين ، وماهم بمسلحين وقاربهم فرعون بجنوده شاكي السلاح يطلبونهم ، ودلائل الحال تقول كلا : لامفر ! العدو من خلفهم ، والبحر من أمامهم ويبلغ الكرب مداه ، وما هي إلا لحظات ويهجم الموت ولا مناص ولا معين ( قال أصحاب موسى إنا لمدركون )[الشعراء:61 ]فيقول موسى الذي امتلأ قلبه بربه ثقة بربه ( كلا ) لا يكون ذلك ( إن معي ربي سيهدين )[الشعراء :62] كلا بقوة وشدة لن نكون مدركين ، كلا لن نكون ضائعين ! كلا إن معي ربي سيهدين ! وفي اللحظات الأخيرة ينبثق الشعاع المنير في ليل اليأس وينفتح باب من النجاة من حيث لا يحتسبون [2]. )
ويضطرب أبو بكر الصاحب إذ هما في الغار وهو يسمع خفق نعال المطاردين ويملكه خوف شديد على صاحبه فيقول ( لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا) فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الواثق بمعية الله ( لا تحزن إن الله معنا) .
ومن آثار معرفة هذا الاسم :
قرب النصر والفرج : قال صلى الله عليه وسلم ( واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً ) رواه الترمذي ( 2516 ) وهو حديث صحيح .
إن نصر الله آت ، وفرجه قريب ، والمؤمن لا يفقد أمله مع طول الانتظار بل يظل يُرجي من القريب المجيب نصره ، وفرجه ولا يقترح عليه بل يتأدب بأدب العبد المسلّم لما أراده ربه ويأخذ بما شرع له من الأسباب .
إذا اشتملت على اليأس القلـوب *** وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطأت المكاره واطمـأنـت *** وأرست في أماكنها الخطـوب
ولم تر لانكشـاف الضر وجهاً *** ولا أغـنى بحيلته الأريــب
أتاك على قنـوط منك غـوث *** يمـن به اللطيف المستجيـب
وكل الحادثات إذا تنـاهــت *** فموصول بها الفرج القريـب
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعا *** وعنــد الله منها المخـرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكان يظنها لا تفرج
ومن الآثـار :
الشوق إلى الله والأنس به : فمع كون الله هو القريب من عباده إلا أن عباده المؤمنين به المصدقين بوعده المصدقين برسله المحبين المختبين أعظم شوقاً إلى من كل قريب وكلما ازدادوا صلاحاً وقربة وسجوداً ، لاح من جماله وجلاله ما يزيدهم شوقاً وحنيناً إلى لقائه وأعظم ما يكون هذا الشوق عند لحظات الحياة الأخيرة عند مفارقة الحياة عندها يعظم شوق المؤمن ويحب لقاء الله ويرجوه .
وأبرح ما يكون الشوق يوماً إذا دنت الخيام من الخيام .
أيها الأخ القارىء والأخت القارئة : لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتهز الفرصة ليشعر أصحابه بالشعور بقرب الله ومعيته ليعشوه هذا المعنى واقعاً عملياً في حياتهم ( إن الذي تدعونه أقرب إلى عنق أحدكم من عنق راحلته ) ( أقرب ما يكون العبد من ربه جوف الليل الآخر ) ( أقرب مايكون العبد من ربه وهو ساجد ) فهل نشعر أنفسنا بهذا المعنى ونربي عليه من حولنا من متلق ومتعلم ومتأدب ؟ وهل نحن نعيش هذا المعنى العظيم الذي يحمل في طياته معاني الأنس والطمأنينة و القوة والثبات ، إنها معاني ومعالم تنهض بالهمة وتصل بالنفس والروح إلى بساط القرب !
وبعد أيها القارئ الكريم :
فإني مع هذا أزعم أني أتيت بظاهر هذه المعاني دون خافيها ، وحمت حول حماها ولم أقع فيها ، إذ الغرض إنما هو الوصول إلى القرب من الرب سبحانه حقيقة لا ادعاءً ، وذلك شيء مكنون في القلوب والخواطر ، ولا تنطق به الأوراق ولا الدفاتر ، فليس أمامك أيها الحبيب المبارك إلا الدربة والإدمان على تذكر اسم القريب ، وإجرائه على قلبك ، وذلك أجدى عليك نفعاً ، وأهدى بصراً وسمعاً ، ترى الخبر عياناً ، والبعيد إمكانا ، فأعط كل جارحة منك قلباً ولساناً من معاني قربه تجده معك ولك قريباً مجيباً ، وتعرف عليه في الرخاء يعرفك في الشدة ، واحفظ الله تجده تجاهك ،و احفظ الله تجده ناصرك ومعينك [3].
اللهم إنك أنت تعلم سرنا وعلانيتنا فاقبل معذرتنا ، وتعلم حاجتنا فأعطنا سؤلنا ، وتعلم ما عندنا فاغفر لنا ذنوبنا .
اللهم إنا نسألك إيماناً يباهي قلوبنا ، ويقيناً صادقاً حتى نعلم أنه لن يصيبنا إلا ما كتبت لنا ...
وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد .
والحمد لله رب العالمين ،،،
*/ كلية الشريعة وأصول الدين - جامعة القصيم - الدراسات العليا
6/11/1428
[1] ينظر : مدراج السالكين 2/ 266 ، 267 . بتصرف .
[2] يراجع : قصة موسى عليه السلام في تفسير ( في ظلال القرآن ) ، لسيد قطب تفسير سورة طه وسورة الشعراء .
[3] تضمين واقتباس من كتاب المثل السائر 1/ 25
الجمعة، يونيو 3
الدعاء 2
(فإني قـريب)
* بقلم/ ماجد بن أحمد الصغير
الحمد لله رب العالمين ، القريب من التائبين ، الناصر للمستضعفين .
والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد : فمن أسماء الله – عز وجل – القريب .
ومن معاني هذا الاسـم : أن سبحانه قريب من عباده ، عليٌ فوق عرشه ، عليم بالسرائر ، وما تكنه الضمائر ، وهو قريب بالعلم والقدرة من عامة الخلائق أجمعين ، وقريب باللطف والنصرة وهذا خاص بالمؤمنين ، من تقرب منه شبراً تقرب منه ذراعاً ، ومن تقرب منه ذراعاً تقرب منه باعاً ، وهو أقرب إلى العبد من عنق راحلته ، وهو أيضا قريب من عبده بقرب ملائكته الذين يطلعون على سره ويصلون إلى مكنون قلبه[1] . والاعتقاد الحق : أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ قريب من عباده حقيقة كما يليق بجلاله وعظمته ، وهو مستوٍ على عرشه ، بائنٌ من خلقه ، وأنه يتقرَّب إليهم حقيقة ، ويدنو منهم حقيقة [2].
ومن معاني القريب : أنه الذي يرى ويسمع ولا يخفى عليه شيء ! وهو قريب من جميع عباده بعلمه المحيط بكل شيء ، وهو القريب من العابدين والداعين والذاكرين يؤنسهم ويحفظهم وينصرهم ويسدد رميهم ويثبت جنانهم ويجيب دعائهم .
ومن معاني القريب : أنه قريب بإجابة الدعاء ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) [البقرة :186 ] وهو مشروط بالاستجابة له فمن الناس من يستجيب لله فيزديهم من فضله (ويستجيب الذين آمنوا وعلموا الصالحات ويزيدهم من فضله) [ الشورى :26] فهو سبحانه هو الذي يُقابِل السؤالَ والدُّعاء بالقَبُول والعَطاء ، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويغيث الملهوف إذا ناداه ، ويكشف السوء عن عباده ويرفع البلاء عن أحبائه ، وكل الخلائق مفتقرة إليه ، ولا قوام لحياتها إلا عليه ، لا ملجأ لها منه إلا إليه ، قال تعالى : ( يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) [الرحمن: 29] ، فجميع الخلائق تصمد إليه وتعتمد عليه [3] ،
وشرط إجابة الدعاء صدق الإيمان والولاء ، فالله حكيم في إجابته ، قد يعجل أو يؤجل على حسب السائل والسؤال ، أو يلطف بعبده باختياره الأفضل لواقع الحال ، أو يدخر له ما ينفعه عند المصير والمآل ، لكن الله تعالى يجيب عبده حتماً ولا يخيب ظنه أبدا كما وعد وقال وهو أصدق القائلين (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186] ، وقال : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ( [غافر:60] ،وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه :(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فقال رجل من القوم إذا نكثر قال الله أكثر ) رواه الترمذي رقم ( 3573) وهو حديث صحيح .
. وإذا وصل المؤمن درجة الإحسان ، وراقب ربه ، واستشعر قربه ، ودنوه واستحيا منه حق الحياء كان من المحسنيين الذين لا ترد لهم دعوة ، وكانت رحمة الله وفرجه قريبة عاجلة ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين ) [ الأعراف : 56]
ومن معاني القريب : القريب بنصره للصابرين المحتسبين : ( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ) [ الأنعام : 34] وقد يطول البلاء ، ويعظم الكرب ، وتنتظر الإجابة حتى ينفذ الصبر ، فلا يأس فإن ما عند الله قريب ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأٍسنا عن القوم المجرمين ) [يوسف : 110]. ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) [ البقرة:214] .
ومن معاني هذا الاسم : أنه سبحانه القريب من التائبين يجيب دعائهم ، ويثبت جنانهم ويذيقهم من حلاوة القرب منه ما يعوضهم فقد ما فقدوه ( ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب )[ هود :61 ] ، وقد ثبت فى الصحيحين ( ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ) رواه البخاري (1094) ومسلم (758) وفى حديث آخر ( أقرب ما يكون الرب من عبده فى جوف الليل الآخر )رواه الترمذي ( 3579 ) وهو حديث صحيح ، ولكن التوبة لا تقبل إلا إذا كانت من قريب بأن تغتنم الحياة ويبادر بالرجوع والوقوف بباب الله قبل أن يحال بينك وبينه فتقول ( رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ) [المنافقون : 10 ] .
كيف نحظى بالقرب !
الإيمـان والعمل الصالح
إن كثرة الأولاد والأموال لا تقرب إلى الله ، بل ربما كانت أعظم الملهيات والصوارف عن ذكر الله وطاعته والجهاد في سبيله ، وفي هذا يقول الحق سبحانه ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأؤلئك لهم جزاء الضعف وهم في الغرفات آمنون ) [ سبأ: 37]، ولا تنال منزلة القرب إلا بالإيمان وصالح الأعمال ، يقول سبحانه في الحديث القدسي : ( وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ) رواه البخاري (6136).
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في قوله تعالى ( واسجد واقترب ) (واسجد لربك واقترب منه في السجود وغيره من أنواع الطاعات ، والقربات فإنها كلها تدني من رضاه وتقرب منه ) [4].
الصلاة بساط القرب
إن الصلاة هي وسيلة القرب الكبرى ، وليس بين العبد وبين ذلك إلا أن يقبل على الله بوجهه ولا يلتفت ، ثم يسجد فيزداد قرباً ، ( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ) [ العلق :19 ] فالصلاة أعظم قربة إلى اللَّه حيث وجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم من أول الأمر وقال صلى الله عليه وسلم : ( أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد ) .
إن لحظات السجود والقرب من الله هي ساعات كرم الله وبركته وعطائه الذي لا حدود له ، ولا قيود ، تهتبل فيها الفرصة بالدعاء والطلب ، وتنثر فيها كنانة القلب بما فيه من أشواق ومطالب . قال صلى الله عليه وسلم : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم ) رواه مسلم . وقال الله سبحانه (واسجد واقترب ) . وفي الحديث أن رجلاً قال يا رسول الله أسالك مرافقتك في الجنة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( أو غير ذلك ؟ ) فقال هو ذاك . فقال : ( فأعني على نفسك بكثرة السجود ). رواه مسلم . وفي الحديث : ( ما من مسلم يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة ) رواه مسلم عن أبي الدرداء . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلاه أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت أنا بالسجود فعصيت فلي النار ) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة . ويروى عن علي بن عبد الله بن عباس أنه كان يسجد في كل يوم ألف سجدة وكانوا يسمونه السجاد[5] .
الذكر والدعاء
إن ساعات الذكر ، ولحظات المناجاة والمناداة والابتهال هي لحظات قرب من الله ودواعي رحمته وإجابته ، قال صلى الله عليه وسلم ( إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) متفق عليه ، رواه البخاري (6236 ) ومسلم (2704) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه ) رواه البخاري ( 6970 )ورواه مسلم (2675)، وذكر الله يوجب القرب من الله عز وجل والزلفى لديه ،ومن أكرم الخلق على الله تعالى من المتقين من لا يزال لسانه رطبا بذكره وإذا جعل المؤمن ذكر الله شعاره أثمر القرب من الله والتقنع بثوب الحياء منه وإجلاله ، وهاج في قلبه هائج الهيبة والمراقبة .
مشهد القرب في عشية عرفة
عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً : ( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء ). رواه مسلم (1348) . أي شيء أراد هؤلاء حيث تركوا أهلهم وأوطانهم وصرفوا أموالهم وأتعبوا أبدانهم ، إنهم أرادوا المغفرة والرضا والقرب واللقاء ومن جاء هذا الباب لا يخشى الرد فالمغفرة شيء سهلٌ يسيرٌ على الله ؛ إذ المغفرة لمن خلق من التراب ، لا يتعاظم على رب الأرباب [6]
والحمد لله رب العالمين ؛؛؛
يتبع في الحلقة القادمة بإذن الله ...
*/ كلية الشريعة وأصول الدين - جامعة القصيم - الدراسات العليا
7/10/1428
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر : طريق الهجرتين ص44 ، واجتماع الجيوش الإسلامية ص68 ، كلاهما للإمام ابن القيم ، وجامع البيان في تفسير آي القرآن ، للإمام الطبري 2/92، تفسير الأسماء الحسنى ، للرضواني ص 68 .
[2] ينظر : مجموع فتاوى شيخ الإسلام (5/466) . وينظر منه : (6/14) ، وصفات الله ، لعلوي السقاف ص 92.
[3] ينظر : الاعتقاد ، للبيهقي ص60 ، والأسماء والصفات ص88 ، الأسماء الحسنى ، للرضواني ص 70 .
[4] ينظر : تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص (930 ) .
[5] ينظر : تفسير القرآن العظيم ، للحافظ ابن كثير 4/ 527 . بتصرف
[6] ينظر : مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ، للقاري ( 5/ 510 ) . بتصرف واختصار .
* بقلم/ ماجد بن أحمد الصغير
الحمد لله رب العالمين ، القريب من التائبين ، الناصر للمستضعفين .
والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد : فمن أسماء الله – عز وجل – القريب .
ومن معاني هذا الاسـم : أن سبحانه قريب من عباده ، عليٌ فوق عرشه ، عليم بالسرائر ، وما تكنه الضمائر ، وهو قريب بالعلم والقدرة من عامة الخلائق أجمعين ، وقريب باللطف والنصرة وهذا خاص بالمؤمنين ، من تقرب منه شبراً تقرب منه ذراعاً ، ومن تقرب منه ذراعاً تقرب منه باعاً ، وهو أقرب إلى العبد من عنق راحلته ، وهو أيضا قريب من عبده بقرب ملائكته الذين يطلعون على سره ويصلون إلى مكنون قلبه[1] . والاعتقاد الحق : أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ قريب من عباده حقيقة كما يليق بجلاله وعظمته ، وهو مستوٍ على عرشه ، بائنٌ من خلقه ، وأنه يتقرَّب إليهم حقيقة ، ويدنو منهم حقيقة [2].
ومن معاني القريب : أنه الذي يرى ويسمع ولا يخفى عليه شيء ! وهو قريب من جميع عباده بعلمه المحيط بكل شيء ، وهو القريب من العابدين والداعين والذاكرين يؤنسهم ويحفظهم وينصرهم ويسدد رميهم ويثبت جنانهم ويجيب دعائهم .
ومن معاني القريب : أنه قريب بإجابة الدعاء ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) [البقرة :186 ] وهو مشروط بالاستجابة له فمن الناس من يستجيب لله فيزديهم من فضله (ويستجيب الذين آمنوا وعلموا الصالحات ويزيدهم من فضله) [ الشورى :26] فهو سبحانه هو الذي يُقابِل السؤالَ والدُّعاء بالقَبُول والعَطاء ، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويغيث الملهوف إذا ناداه ، ويكشف السوء عن عباده ويرفع البلاء عن أحبائه ، وكل الخلائق مفتقرة إليه ، ولا قوام لحياتها إلا عليه ، لا ملجأ لها منه إلا إليه ، قال تعالى : ( يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) [الرحمن: 29] ، فجميع الخلائق تصمد إليه وتعتمد عليه [3] ،
وشرط إجابة الدعاء صدق الإيمان والولاء ، فالله حكيم في إجابته ، قد يعجل أو يؤجل على حسب السائل والسؤال ، أو يلطف بعبده باختياره الأفضل لواقع الحال ، أو يدخر له ما ينفعه عند المصير والمآل ، لكن الله تعالى يجيب عبده حتماً ولا يخيب ظنه أبدا كما وعد وقال وهو أصدق القائلين (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186] ، وقال : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ( [غافر:60] ،وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه :(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فقال رجل من القوم إذا نكثر قال الله أكثر ) رواه الترمذي رقم ( 3573) وهو حديث صحيح .
. وإذا وصل المؤمن درجة الإحسان ، وراقب ربه ، واستشعر قربه ، ودنوه واستحيا منه حق الحياء كان من المحسنيين الذين لا ترد لهم دعوة ، وكانت رحمة الله وفرجه قريبة عاجلة ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين ) [ الأعراف : 56]
ومن معاني القريب : القريب بنصره للصابرين المحتسبين : ( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ) [ الأنعام : 34] وقد يطول البلاء ، ويعظم الكرب ، وتنتظر الإجابة حتى ينفذ الصبر ، فلا يأس فإن ما عند الله قريب ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأٍسنا عن القوم المجرمين ) [يوسف : 110]. ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) [ البقرة:214] .
ومن معاني هذا الاسم : أنه سبحانه القريب من التائبين يجيب دعائهم ، ويثبت جنانهم ويذيقهم من حلاوة القرب منه ما يعوضهم فقد ما فقدوه ( ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب )[ هود :61 ] ، وقد ثبت فى الصحيحين ( ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ) رواه البخاري (1094) ومسلم (758) وفى حديث آخر ( أقرب ما يكون الرب من عبده فى جوف الليل الآخر )رواه الترمذي ( 3579 ) وهو حديث صحيح ، ولكن التوبة لا تقبل إلا إذا كانت من قريب بأن تغتنم الحياة ويبادر بالرجوع والوقوف بباب الله قبل أن يحال بينك وبينه فتقول ( رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ) [المنافقون : 10 ] .
كيف نحظى بالقرب !
الإيمـان والعمل الصالح
إن كثرة الأولاد والأموال لا تقرب إلى الله ، بل ربما كانت أعظم الملهيات والصوارف عن ذكر الله وطاعته والجهاد في سبيله ، وفي هذا يقول الحق سبحانه ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأؤلئك لهم جزاء الضعف وهم في الغرفات آمنون ) [ سبأ: 37]، ولا تنال منزلة القرب إلا بالإيمان وصالح الأعمال ، يقول سبحانه في الحديث القدسي : ( وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ) رواه البخاري (6136).
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في قوله تعالى ( واسجد واقترب ) (واسجد لربك واقترب منه في السجود وغيره من أنواع الطاعات ، والقربات فإنها كلها تدني من رضاه وتقرب منه ) [4].
الصلاة بساط القرب
إن الصلاة هي وسيلة القرب الكبرى ، وليس بين العبد وبين ذلك إلا أن يقبل على الله بوجهه ولا يلتفت ، ثم يسجد فيزداد قرباً ، ( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ) [ العلق :19 ] فالصلاة أعظم قربة إلى اللَّه حيث وجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم من أول الأمر وقال صلى الله عليه وسلم : ( أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد ) .
إن لحظات السجود والقرب من الله هي ساعات كرم الله وبركته وعطائه الذي لا حدود له ، ولا قيود ، تهتبل فيها الفرصة بالدعاء والطلب ، وتنثر فيها كنانة القلب بما فيه من أشواق ومطالب . قال صلى الله عليه وسلم : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم ) رواه مسلم . وقال الله سبحانه (واسجد واقترب ) . وفي الحديث أن رجلاً قال يا رسول الله أسالك مرافقتك في الجنة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( أو غير ذلك ؟ ) فقال هو ذاك . فقال : ( فأعني على نفسك بكثرة السجود ). رواه مسلم . وفي الحديث : ( ما من مسلم يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة ) رواه مسلم عن أبي الدرداء . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلاه أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت أنا بالسجود فعصيت فلي النار ) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة . ويروى عن علي بن عبد الله بن عباس أنه كان يسجد في كل يوم ألف سجدة وكانوا يسمونه السجاد[5] .
الذكر والدعاء
إن ساعات الذكر ، ولحظات المناجاة والمناداة والابتهال هي لحظات قرب من الله ودواعي رحمته وإجابته ، قال صلى الله عليه وسلم ( إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) متفق عليه ، رواه البخاري (6236 ) ومسلم (2704) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه ) رواه البخاري ( 6970 )ورواه مسلم (2675)، وذكر الله يوجب القرب من الله عز وجل والزلفى لديه ،ومن أكرم الخلق على الله تعالى من المتقين من لا يزال لسانه رطبا بذكره وإذا جعل المؤمن ذكر الله شعاره أثمر القرب من الله والتقنع بثوب الحياء منه وإجلاله ، وهاج في قلبه هائج الهيبة والمراقبة .
مشهد القرب في عشية عرفة
عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً : ( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء ). رواه مسلم (1348) . أي شيء أراد هؤلاء حيث تركوا أهلهم وأوطانهم وصرفوا أموالهم وأتعبوا أبدانهم ، إنهم أرادوا المغفرة والرضا والقرب واللقاء ومن جاء هذا الباب لا يخشى الرد فالمغفرة شيء سهلٌ يسيرٌ على الله ؛ إذ المغفرة لمن خلق من التراب ، لا يتعاظم على رب الأرباب [6]
والحمد لله رب العالمين ؛؛؛
يتبع في الحلقة القادمة بإذن الله ...
*/ كلية الشريعة وأصول الدين - جامعة القصيم - الدراسات العليا
7/10/1428
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر : طريق الهجرتين ص44 ، واجتماع الجيوش الإسلامية ص68 ، كلاهما للإمام ابن القيم ، وجامع البيان في تفسير آي القرآن ، للإمام الطبري 2/92، تفسير الأسماء الحسنى ، للرضواني ص 68 .
[2] ينظر : مجموع فتاوى شيخ الإسلام (5/466) . وينظر منه : (6/14) ، وصفات الله ، لعلوي السقاف ص 92.
[3] ينظر : الاعتقاد ، للبيهقي ص60 ، والأسماء والصفات ص88 ، الأسماء الحسنى ، للرضواني ص 70 .
[4] ينظر : تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص (930 ) .
[5] ينظر : تفسير القرآن العظيم ، للحافظ ابن كثير 4/ 527 . بتصرف
[6] ينظر : مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ، للقاري ( 5/ 510 ) . بتصرف واختصار .
الدعاء -1
إن ربي قريب مجيب
* بقلم/ ماجد بن أحمد الصغير
اللهم لك الحمدأنت المستعان على كل نائبة ، وأنت المقصود عند كل نازلة ، لك عنت وجوهنا وخشعت لك أصواتنا ، أنت الرب الحق ... وأنت الملك الحق ... وأنت الإله الحق .
أنت المدعوّ في المهمات ، وإليك المفزع في الملمات ، لا يندفع منها إلا ما دفعت ، ولا ينكشف منها إلا ما كشفت .
ونصلي ونسلم على أشرف رسلك وخاتم أنبيائك وعلى الآل والصحب ومن تبعهم بإحسان . أما بعد ؛ فإن من حكمة الله أن يبتلى عباده بألوان من الهموم والأمراض والمصائب ؛ ليسألوه ، ويقفوا بين يديه ، فيجدوا رباً غنياً غير فقير ، وقريباً غير بعيد ، وعزيزاً غير ذليل لأن الابتلاء يسوق الإنسان إلى ربه سوقاً ، يتوسل إليه ويدعوه فيجده ربه قريباً مجيباً فيعرف العباد له قدرته وكرمه ورحمته وحكمته . ذلك هو اسم الله المجيب : ( إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) [هود:61] .
مجيب السائلين حملت ذنبي *** وسرت على الطريق إلى حماكا
ورحت أدق بابك مستجيراً *** ومعتذراً ... ومنتظراً رضاكا
دعوتك يا مفرج كل كرب *** ولست ترد مكروباً دعاكـا
وفي خضم الحياة المادية يحتاج المؤمن إلى ملجئ يأوي إليه ، ومعين يعتمد عليه ، وقوي جليل يتقوى بقواه ، وعظيم كبير يحتمي بحماه ومفتاح ذلك الدعاء .
تسقط القوة ، وتعيا الحيلة فليس إلا الدعاء ...
تضيق الدنيا بأهلها حتى كأنها سم الخياط فليس إلا الدعاء .
بالدعاء تحل عقد المكاره ، ويفل حد الشدائد ، وبه يلتمس المخرج ، ومعه تفتح أبواب الفرج .
إن الدعاء معين من الخير لا ينضب ، ومدد من العون لا ينفد ؛ لأنه باب العطاء العظيم والله سبحانه يحب الداعين ولا يخيب السائلين !
إنه المُجِيب الذي يُقابِل السؤالَ والدُّعاء بالقَبُول والعَطاء .
إنه المجيب الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويغيث الملهوف إذا ناداه ، ويكشف السوء عن عباده ويرفع البلاء عن أحبائه .
كل الخلائق مفتقرة إليه ، ولا قوام لحياتها إلا عليه ، لا ملجأ لها منه إلا إليه ،وجميع الخلائق تصمد إليه وتعتمد عليه [1] ، ولكن الله حكيم في إجابته ، قد يعجل أو يؤجل على حسب السائل والسؤال ، أو يلطف بعبده باختياره الأفضل لواقع الحال ، أو يدخر له ما ينفعه عند المصير والمآل ، لكن الله تعالى يجيب عبده حتماً ولا يخيب ظنه أبداً كما وعد وقال وهو أصدق القائلين (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) [البقرة:186] ، وقال : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) [غافر:60]
إنه الإله العظيم القريب المجيب ... يدعى لكشف الضر ؛ فترسل السماء ماءها وتخرج الأرض بركاتها وزهرتها ...
خرج رجل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً فقال يا رسول الله : هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا . قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ، فقال : اللهم اسقنا ، اللهم اسقنا ، اللهم اسقنا . قال أنس : ولا والله مانرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئاً ، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار . قال : فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت .قال : والله مارأينا الشمس ستاً ، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائماً ، فقال : يارسول الله هلكت الأموال ، وانقطعت السبل فادع الله يمسكها . قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ، ثم قال : اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والجبال والآجام والضراب والأودية ومنابت الشجر . قال : فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس ) [2]. )
وفي كتاب ( الفرح بعد الشدة ) للتنوخي أن امرأة بالبادية ، جاء البرد فذهب بزرع كان لها، فجاء الناس يعزونها ، فرفعت طرفها إلى السماء ، وقالت : اللهم أنت المأمول لأحسن الخلف ، وبيدك التعويض عما تلف ، فافعل بنا ما أنت أهله ، فإن أرزاقنا عليك، وآمالنا مصروفة إليك . قال: فلم أبرح، حتى جاء رجل من الأجلاء ، فحدث بما كان ، فوهب لها خمسمائة دينار .
إنه الإله العظيم الكريم المجيب ... يدعى ويؤمل لصلاح القلب ، فتذهب عن النفوس شدتها ، وعن القلوب قسوتها، ويبتهل إليه لشفاء السقيم ومغفرة الذنب العظيم ، فيشفى المرض ويغفر الذنب .
إنه مجيب السائلين صاحب العطايا ، ومنزل البركات ...
وفي ساعات الاضطرار واليأس من كل قريب ، وانقطاع الأسباب عن كل مجيب فالله هو الذي ( يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ) (النمل:62) .
أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب : (( المجابين )) عن الحسن – رحمه الله – أنه قال : كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار يكنى أبا مغلق وكان تاجراً يتجر بمال له ولغيره يضرب به في الآفاق وكان ناسكاً ورعاً فخرج مرة فلقيه لص مقنع في السلاح . فقال له : ضع ما معك فإني قاتلك ! قال : فما تريد إلى دمي فشأنك والمال ؟ قال : أما المال فلي ، ولست أريد إلا دمك . قال : أما إذا أبيت فذرني أصلى أربع ركعات قال صلى ما بدا لك فتوضأ ثم صلى أربع ركعات فكان من دعائه في آخر سجدة أن قال : يا ودود يا ذا العرش المجيد يا فعالاً لما تريد أسألك بعزك الذي لا يرام ، وبملكك الذي لا يضام ، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص يا مغيث أغثني يا مغيث أغثني ، يا مغيث أغثني ، يامغيث أغثني ، يا مغيث أغثني ، فإذا هو بفارس أقبل بيده حربة قد وضعها بين أذني فرسه فلما بصر به اللص أقبل نحوه فطعنه فقتله ثم أقبل إليه ، فقال : قم ، فقال : من أنت بأبي أنت وأمي فقد أغاثني الله بك اليوم ، فقال : أنا ملك من أهل السماء الرابعة دعوت فسمعت لأبواب السماء قعقعة ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل لي دعاء مكروب فسألت الله أن يوليني قتله . قال الحسن فمن توضأ وصلى أربع ركعات ودعا بهذا الدعاء استجيب له مكروبا كان أو غير مكروب [3]. )
فإذا كنت في كرب وشدة فإن الفرج موصول بالدعاء فإنه سبحانه نعم المجيب ( ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ) ، ( وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (الأنبياء:76) .
وإذا كنت في ضر ومرض وألم فلا تضن على نفسك بالدعاء فبه يكشف الضر وبه يزول : (وأيوب إذ نادى ربه أني مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء:84) .
وإذا دفعت إلى شدة شديدة ، وخوف عظيم ، لا حيلة لك فيها، ، فالجأ إلى الصلاة والدعاء ، وأقبل على التضرع والبكاء ، وأسأل الله عز وجل تعجيل الفرج فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب يقول : ( لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش الكريم لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم ) [4] .)
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك بن عبدك بن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحاً فقيل : يا رسول الله ألا نتعلمها ؟ قال : بل ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها )[5] . قال ابن مسعود : ما كرب نبي من الأنبياء إلا استغاث بالتسبيح (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء:88) )
وفي كتاب ( الفرج بعد الشدة ) أن الوليد بن عبد الملك بن مروان كتب إلى صالح بن عبد الله المزني، عامله على المدينة، أن أنزل الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فاضربه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خمسمائة سوط.
قال: فأخرجه صالح إلى المسجد، ليقرأ عليهم كتاب الوليد بن عبد الملك، ثم ينزل فيضرب الحسن، فبينما هو يقرأ الكتاب، إذ جاء علي بن الحسين عليهما السلام ، مبادراً يريد الحسن، فدخل والناس معه إلى المسجد، واجتمع الناس، حتى انتهى إلى الحسن فقال له: يا ابن عم، ادع بدعاء الكرب . فقال : وما هو يا ابن عم قال: قل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين [6]. قال: وانصرف علي، وأقبل الحسن يكررها دفعات كثيرة. فلما فرغ صالح من قراءة الكتاب ونزل عن المنبر، قال للناس: أرى سحنة رجل مظلوم، أخروا أمره حتى أراجع أمير المؤمنين، وأكتب في أمره . ففعل ذلك ، ولم يزل يكاتب ، حتى أطلق . قال: وكان الناس يدعون ، ويكررون هذا الدعاء ، وحفظوه . قال: فما دعونا بهذا الدعاء في شدة إلا فرجها الله عنا بمنه . )
اللهم إليك نفزع ، وعليك نتوكل ، وإياك نستعين .
سبحانك لا مغلق لما فتحت ، ولا فاتح لما أغلقت .
سبحانك لا ميسر لما عسرت ، ولا معسر لما يسرت .
اللهم اجعل لنا وللمستضعفين من المؤمنين من كل هم فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً ، ومن كل بلاء عافية . دعوناك كما أمرتنا ، فاستجب لنا كما وعدنا وأنت القريب المجيب ، لا نخيب ونحن لك راجون ، ولا نذل ونحن بابك واقفون ، ولا نفتقر ونحن لك قاصدون .
*/ كلية الشريعة وأصول الدين - جامعة القصيم - الدراسات العليا
22/2/1429
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ينظر : الاعتقاد للبيهقي ص60 ، والأسماء والصفات للرضواني ص88 بتصرف واختصار .
[2] متفق عليه : رواه البخاري برقم 967 ، ومسلم برقم 898 من حديث أنس رضي الله عنهما .
[3] قال الإمام ابن القيم في الجواب الكافي ص7 :وكثيرا ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله أو حسنة تقدمت منه جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكراًَ لحسنته أو صادف الدعاء وقت إجابة ونحو ذلك فأجيبت دعوته فيظن الظان أن السر في لفظ ذلك الدعاء فيأخذه .
[4] أخرجه البخاري في صحيحه ( 5/ 2336 برقم 5986 ) .
[5] أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/391 برقم ( 3712)
[6] يقال في هذا الدعاء مثل ما قاله الإمام ابن القيم في الدعاء السابق فإن الوارد في دعاء الكرب هو الحديث المعروف في حاشية (4) .
* بقلم/ ماجد بن أحمد الصغير
اللهم لك الحمدأنت المستعان على كل نائبة ، وأنت المقصود عند كل نازلة ، لك عنت وجوهنا وخشعت لك أصواتنا ، أنت الرب الحق ... وأنت الملك الحق ... وأنت الإله الحق .
أنت المدعوّ في المهمات ، وإليك المفزع في الملمات ، لا يندفع منها إلا ما دفعت ، ولا ينكشف منها إلا ما كشفت .
ونصلي ونسلم على أشرف رسلك وخاتم أنبيائك وعلى الآل والصحب ومن تبعهم بإحسان . أما بعد ؛ فإن من حكمة الله أن يبتلى عباده بألوان من الهموم والأمراض والمصائب ؛ ليسألوه ، ويقفوا بين يديه ، فيجدوا رباً غنياً غير فقير ، وقريباً غير بعيد ، وعزيزاً غير ذليل لأن الابتلاء يسوق الإنسان إلى ربه سوقاً ، يتوسل إليه ويدعوه فيجده ربه قريباً مجيباً فيعرف العباد له قدرته وكرمه ورحمته وحكمته . ذلك هو اسم الله المجيب : ( إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) [هود:61] .
مجيب السائلين حملت ذنبي *** وسرت على الطريق إلى حماكا
ورحت أدق بابك مستجيراً *** ومعتذراً ... ومنتظراً رضاكا
دعوتك يا مفرج كل كرب *** ولست ترد مكروباً دعاكـا
وفي خضم الحياة المادية يحتاج المؤمن إلى ملجئ يأوي إليه ، ومعين يعتمد عليه ، وقوي جليل يتقوى بقواه ، وعظيم كبير يحتمي بحماه ومفتاح ذلك الدعاء .
تسقط القوة ، وتعيا الحيلة فليس إلا الدعاء ...
تضيق الدنيا بأهلها حتى كأنها سم الخياط فليس إلا الدعاء .
بالدعاء تحل عقد المكاره ، ويفل حد الشدائد ، وبه يلتمس المخرج ، ومعه تفتح أبواب الفرج .
إن الدعاء معين من الخير لا ينضب ، ومدد من العون لا ينفد ؛ لأنه باب العطاء العظيم والله سبحانه يحب الداعين ولا يخيب السائلين !
إنه المُجِيب الذي يُقابِل السؤالَ والدُّعاء بالقَبُول والعَطاء .
إنه المجيب الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويغيث الملهوف إذا ناداه ، ويكشف السوء عن عباده ويرفع البلاء عن أحبائه .
كل الخلائق مفتقرة إليه ، ولا قوام لحياتها إلا عليه ، لا ملجأ لها منه إلا إليه ،وجميع الخلائق تصمد إليه وتعتمد عليه [1] ، ولكن الله حكيم في إجابته ، قد يعجل أو يؤجل على حسب السائل والسؤال ، أو يلطف بعبده باختياره الأفضل لواقع الحال ، أو يدخر له ما ينفعه عند المصير والمآل ، لكن الله تعالى يجيب عبده حتماً ولا يخيب ظنه أبداً كما وعد وقال وهو أصدق القائلين (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) [البقرة:186] ، وقال : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) [غافر:60]
إنه الإله العظيم القريب المجيب ... يدعى لكشف الضر ؛ فترسل السماء ماءها وتخرج الأرض بركاتها وزهرتها ...
خرج رجل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً فقال يا رسول الله : هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا . قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ، فقال : اللهم اسقنا ، اللهم اسقنا ، اللهم اسقنا . قال أنس : ولا والله مانرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئاً ، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار . قال : فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت .قال : والله مارأينا الشمس ستاً ، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائماً ، فقال : يارسول الله هلكت الأموال ، وانقطعت السبل فادع الله يمسكها . قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ، ثم قال : اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والجبال والآجام والضراب والأودية ومنابت الشجر . قال : فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس ) [2]. )
وفي كتاب ( الفرح بعد الشدة ) للتنوخي أن امرأة بالبادية ، جاء البرد فذهب بزرع كان لها، فجاء الناس يعزونها ، فرفعت طرفها إلى السماء ، وقالت : اللهم أنت المأمول لأحسن الخلف ، وبيدك التعويض عما تلف ، فافعل بنا ما أنت أهله ، فإن أرزاقنا عليك، وآمالنا مصروفة إليك . قال: فلم أبرح، حتى جاء رجل من الأجلاء ، فحدث بما كان ، فوهب لها خمسمائة دينار .
إنه الإله العظيم الكريم المجيب ... يدعى ويؤمل لصلاح القلب ، فتذهب عن النفوس شدتها ، وعن القلوب قسوتها، ويبتهل إليه لشفاء السقيم ومغفرة الذنب العظيم ، فيشفى المرض ويغفر الذنب .
إنه مجيب السائلين صاحب العطايا ، ومنزل البركات ...
وفي ساعات الاضطرار واليأس من كل قريب ، وانقطاع الأسباب عن كل مجيب فالله هو الذي ( يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ) (النمل:62) .
أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب : (( المجابين )) عن الحسن – رحمه الله – أنه قال : كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار يكنى أبا مغلق وكان تاجراً يتجر بمال له ولغيره يضرب به في الآفاق وكان ناسكاً ورعاً فخرج مرة فلقيه لص مقنع في السلاح . فقال له : ضع ما معك فإني قاتلك ! قال : فما تريد إلى دمي فشأنك والمال ؟ قال : أما المال فلي ، ولست أريد إلا دمك . قال : أما إذا أبيت فذرني أصلى أربع ركعات قال صلى ما بدا لك فتوضأ ثم صلى أربع ركعات فكان من دعائه في آخر سجدة أن قال : يا ودود يا ذا العرش المجيد يا فعالاً لما تريد أسألك بعزك الذي لا يرام ، وبملكك الذي لا يضام ، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص يا مغيث أغثني يا مغيث أغثني ، يا مغيث أغثني ، يامغيث أغثني ، يا مغيث أغثني ، فإذا هو بفارس أقبل بيده حربة قد وضعها بين أذني فرسه فلما بصر به اللص أقبل نحوه فطعنه فقتله ثم أقبل إليه ، فقال : قم ، فقال : من أنت بأبي أنت وأمي فقد أغاثني الله بك اليوم ، فقال : أنا ملك من أهل السماء الرابعة دعوت فسمعت لأبواب السماء قعقعة ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل لي دعاء مكروب فسألت الله أن يوليني قتله . قال الحسن فمن توضأ وصلى أربع ركعات ودعا بهذا الدعاء استجيب له مكروبا كان أو غير مكروب [3]. )
فإذا كنت في كرب وشدة فإن الفرج موصول بالدعاء فإنه سبحانه نعم المجيب ( ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ) ، ( وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (الأنبياء:76) .
وإذا كنت في ضر ومرض وألم فلا تضن على نفسك بالدعاء فبه يكشف الضر وبه يزول : (وأيوب إذ نادى ربه أني مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء:84) .
وإذا دفعت إلى شدة شديدة ، وخوف عظيم ، لا حيلة لك فيها، ، فالجأ إلى الصلاة والدعاء ، وأقبل على التضرع والبكاء ، وأسأل الله عز وجل تعجيل الفرج فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب يقول : ( لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش الكريم لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم ) [4] .)
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك بن عبدك بن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحاً فقيل : يا رسول الله ألا نتعلمها ؟ قال : بل ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها )[5] . قال ابن مسعود : ما كرب نبي من الأنبياء إلا استغاث بالتسبيح (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء:88) )
وفي كتاب ( الفرج بعد الشدة ) أن الوليد بن عبد الملك بن مروان كتب إلى صالح بن عبد الله المزني، عامله على المدينة، أن أنزل الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فاضربه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خمسمائة سوط.
قال: فأخرجه صالح إلى المسجد، ليقرأ عليهم كتاب الوليد بن عبد الملك، ثم ينزل فيضرب الحسن، فبينما هو يقرأ الكتاب، إذ جاء علي بن الحسين عليهما السلام ، مبادراً يريد الحسن، فدخل والناس معه إلى المسجد، واجتمع الناس، حتى انتهى إلى الحسن فقال له: يا ابن عم، ادع بدعاء الكرب . فقال : وما هو يا ابن عم قال: قل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين [6]. قال: وانصرف علي، وأقبل الحسن يكررها دفعات كثيرة. فلما فرغ صالح من قراءة الكتاب ونزل عن المنبر، قال للناس: أرى سحنة رجل مظلوم، أخروا أمره حتى أراجع أمير المؤمنين، وأكتب في أمره . ففعل ذلك ، ولم يزل يكاتب ، حتى أطلق . قال: وكان الناس يدعون ، ويكررون هذا الدعاء ، وحفظوه . قال: فما دعونا بهذا الدعاء في شدة إلا فرجها الله عنا بمنه . )
اللهم إليك نفزع ، وعليك نتوكل ، وإياك نستعين .
سبحانك لا مغلق لما فتحت ، ولا فاتح لما أغلقت .
سبحانك لا ميسر لما عسرت ، ولا معسر لما يسرت .
اللهم اجعل لنا وللمستضعفين من المؤمنين من كل هم فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً ، ومن كل بلاء عافية . دعوناك كما أمرتنا ، فاستجب لنا كما وعدنا وأنت القريب المجيب ، لا نخيب ونحن لك راجون ، ولا نذل ونحن بابك واقفون ، ولا نفتقر ونحن لك قاصدون .
*/ كلية الشريعة وأصول الدين - جامعة القصيم - الدراسات العليا
22/2/1429
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ينظر : الاعتقاد للبيهقي ص60 ، والأسماء والصفات للرضواني ص88 بتصرف واختصار .
[2] متفق عليه : رواه البخاري برقم 967 ، ومسلم برقم 898 من حديث أنس رضي الله عنهما .
[3] قال الإمام ابن القيم في الجواب الكافي ص7 :وكثيرا ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله أو حسنة تقدمت منه جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكراًَ لحسنته أو صادف الدعاء وقت إجابة ونحو ذلك فأجيبت دعوته فيظن الظان أن السر في لفظ ذلك الدعاء فيأخذه .
[4] أخرجه البخاري في صحيحه ( 5/ 2336 برقم 5986 ) .
[5] أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/391 برقم ( 3712)
[6] يقال في هذا الدعاء مثل ما قاله الإمام ابن القيم في الدعاء السابق فإن الوارد في دعاء الكرب هو الحديث المعروف في حاشية (4) .
الله جل جلاله(2)
الله جل جلاله(2)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد :
فـ(الله) هو الاسم الأعظم على الأرجح، يقول القرطبي رحمه الله: «وهذا الاسم هو أكبر أسمائه وأجمعها حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم، ولم يتسم به غيره، ولذلك لم يثن، ولم يجمع وهو أحد تأويلي قوله تعالى: ( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) [مريم: 65]، أي: هل تعلم من تسمى باسمه الذي هو (الله)، (فالله) اسم للموجود الحق الجامع لصفات الألوهية المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد الحقيقي لا إله إلا هو سبحانه»[1].
ومما يرجح قول من قال: إن (الله) هو الاسم الأعظم ما يلي:
1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سـمع أحد الصحابة يدعو بهذا الدعـاء: «اللَّهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصـمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكـن له كفـوًا أحد»؛ قال: (والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)[2].
2- كثرة وروده في كتاب الله تعالى، فقد ورد في كتاب الله (2724) مرة.
3- أن بقية أسمائه تبارك وتعالى تجري مع هذا الاسم مجرى الصفات مع الأسماء، فتقول: من صفات الله العليم الحكيم الكريم، ولا تقول: من صفات العليم الله.
4- اسم الله مستلزم لجميع معاني أسمائه الحسنى، دال عليها بالإجمال، وكل أسمائه وصفاته تفصيل وتبيين لصفات الألوهية التي اشتق منها اسم الله، واسم الله يدل على كونه سبحانه معبودًا، تألهه الخلائق محبة، وتعظيمًا، وخضوعًا، وفزعًا إليه في النوائب والحاجات.
وقال ابن القيم: «الإله هو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى، ولهذا كان القول الصحيح أن الله أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم، وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى»[3].
5- تعرف الرب تبارك وتعالى إلى موسى باسمه الله:
تعرف الله تبارك وتعالى إلى عباده باسمه (الله) كثيرًا، ومن هؤلاء نبي الله موسى عليه السلام عندما أرسله إلى قومه، فعندما كان موسى عليه السلام، عائدًا بأهله من مدين في طـريقه إلى مصـر في ليلة ظلمـاء باردة، رأى على البعد بجانب الطور نارًا، فقال لأهله:( امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[القصص: 30]، وقال له: ( وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ) [طه: 13، 14].
فتعرف الله عز وجل إلى نبيه موسى عليه السلام بأنه اللهُ ربُّ العالمين، وأنه اللهُ الحق الذي لا يستحق العبادة إلا هو.
وقد تعرف الله إلى عباده في كتابه المنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك ومن هذا ما جاء في فاتحة أعظم آيات هذا الكتاب، وهي آية الكرسي، فقد جاء في أولها : (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) [البقرة: 255].
6- دعاؤه - تبارك وتعالى - بهذا الاسم:
أكثر ما يدعى الله - تبارك وتعالى - بلفظ: (اللَّهم)، ومعنى: اللَّهم، ياالله، ولـهذا لا تسـتعمل إلا في الطلب، فلا يقال: اللَّهم غفـور رحيم، بل يقال: اللَّهم اغفـر لي وارحـمني وقد كان الرسـول صلى الله عليه وسلم يدعـو ربه كثيرًا بقوله (اللَّهم)[4].
وللشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - رأي في حقيقة الاسم الأعظم المشار إليه في الحديث حيث يقول: «بعض الناس يظن أن الاسم الأعظم من أسماء الله الحسنى لا يعرفه إلا من خصه الله بكرامة خارقة للعادة، وهذا ظن خطأ فإن الله - تبارك وتعالى - حثنا على معرفة أسمائه وصفاته، وأثنى على من عرفها، وتفقه فيها، ودعا الله بها دعاء عبادة وتعبد، ودعاء مسألة، ولا ريب أنّ الاسم الأعظم منها أولاها بهذا الأمر، فإنه تعالى هو الجواد المطلق الذي لا منتهى لجوده وكرمه، وهو يحب الجود على عباده، ومن أعظم ما جاد به عليهم تعرفه لهم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فالصواب أنّ الأسماء الحسنى كلها حسنى، وكل واحد منها عظيم، ولكن الاسم الأعظم منها كل اسم مفرد أو مقرون مع غيره إذا دل على جميع صفاته الذاتية والفعلية، أو دل على معاني جميع الصفات مثل:
(الله) فإنه الاسم الجامع لمعاني الألوهية كلها، وهي جميع أوصاف الكمال، ومثل: (الحميد المجيد) فإن (الحميد) الاسم الذي دل على جميع المحامد والكمالات لله تعالى، و(المجيد) الذي دل على أوصاف العظمة والجلال ويقرب من ذلك (الجليل الجميل الغني الكريم).
ومثل: (الحي القيوم)، فإن (الحي) من له الـحياة الكاملة العظيمة الـجامعة لجميع معاني الذات، و(القيوم) الذي قام بنفسه، واستغنى عن جـميع خلقه، وقام بـجميع الموجودات، فهـو الاسم الذي تدخل فيه صفات الأفعال كلها.
ومثل: اسمه (العظيم الكبير) الذي له جميع معاني العظمة والكبرياء في ذاته وأسمائه وصفاته، وله جميع معاني التعظيم من خواص خلقه.
ومثل قولك: (يا ذا الجلال والإكرام) فإن الجلال صفات العظمة والكبرياء، والكمالات المتنوعة، والإكرام استحقاقه على عباده غاية الحب، وغاية الذل وما أشبه ذلك.
فعلم بذلك أن الاسم الأعظم اسـم جنس، وهذا هـو الذي تدل عليه الأدلة الشـرعية والاشتقاق، كما في السنة أنه سمع رجلاً يقول: «اللَّهم إني أسألك بأني أشـهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد»، فقال: (والذي نفسي بيده، لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى)[5].
وكذلك الحديث الآخر حين دعا الرجل، فقال: «اللَّهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام، يا حي! يا قيوم! فقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)[6]، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (اسم الله الأعظم في هاتين السورتين: ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ )، ( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ )[7] فمتى دعا الله العبد باسم من هذه الأسـماء العظيمة بـحضور قلب ورقة وانكسـار لم تكـد ترد له دعـوة والله الموفق»[8].
من آثار هذا الاسم العظيم وموجباته :
إذا عرف المؤمن معنى هذا الاسم العظيم وما يستلزم من الأسماء الحسنى والصفات العلا لله تعالى فإنه يطبع في القلب معاني عظيمة وآثارًا جليلة من أهمها:
1- محبة الله - عز وجل - محبة عظيمة تتقدم على محبة النفس، والأهل، والولد، والدنيا جميعًا؛ لأنه المألوه المعبود وحده وهو المنعم المتفضل وحده وهو الذي له الأسماء الحسنى، وهو الذي له الخلق والأمر والحمد كله وهذا يستلزم محبة من يحبه الله تعالى وما يحبه، وبغض ما يبغضه سبحانه، ومن يبغضه، والموالاة والمعاداة فيه. ولا يذوق طعم الإيمان إلا من أحب الله - عز وجل - الحب كله وأحب فيه وأبغض فيه وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)[9].
ولله المثل الأعلى. لو أن مخلوقًا تحلى بصفات الكمال الإنسانية التي يحبها الناس ومع ذلك كان له نعمة ويد على أحد من الناس فماذا سيكون شأن هذا المخلوق في قلوب هؤلاء الناس؟ لا شك أن المحبة العظيمة، والأنس به، والتلذذ بمصاحبته ستكون هي المتمكنة من القلوب نحـوه. وهذا بالنسـبة لمخلوق ضعيف محدود الزمان والمكان قاصر الأخلاق والصفات.وما صدر منه من نعمة فهي من الله - عز وجل - وهي محدودة قاصرة. فكيف بمن له الأسماء الحسنى والصفات العلا وكيف بمن نعمه مدرارة على خلقه في كل نفس وزمان ومكان. أليس هو المستحق للحمد كله، والحب كله، والخوف كله، والرجاء كله، وكل أنواع العبوديات المختلفة؟ بلى والله.
ولذا يجد العبد راحة وطمأنينة عندما يدعو ربه - عز وجل - ويقول: (ياألله أو : اللَّهم) حيث يسكب في نفسه الأمان والرجاء.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: «وعباد الرحمن يألهونه ويعبدونه، ويبذلون له مقدورهم بالتأله القلبي، والروحي، والقولي والفعلي، بحسب مقاماتهم ومراتبهم، فيعرفون من نعوته وأوصافه ما تتسع قواهم لمعرفته، ويحبونه من كل قلوبهم محبةً تتضاءل جميعُ المحابِّ لها، فلا يعارض هذه المحبة في قلوبهم محبة الأولاد والوالدين وجميع محبوبات النفوس، بل خواصهم جعلوا كل محبوبات النفوس الدينية والدنيوية تبعًا لهذه المحبة، فلما تمَّت محبة الله في قلوبهم أحبوا ما أحبه من أشخاص وأعمال، وأزمنة، وأمكنة، فصارت محبتهم وكراهتهم تبعًا لإلههم وسيدهم ومحبوبه.
ولما تمَّت محبة الله في قلوبهم التي هي أصل التأله والتعبد أنابوا إليه فطلبوا قُربه ورضوانه، وتوسَّلوا إلى ذلك وإلى ثوابه بالجد والاجتهاد في فعل ما أمر الله به ورسوله، وفي ترك جميع ما نهى الله عنه ورسوله، وبهذا صاروا محبِّين محبوبين له، وبذلك تحققت عبوديتهم وألوهيتهم لربهم، وبذلك استحقوا أن يكونوا عباده حقًا، وأن يضيفهم إليه بوصف الرحمة حيث قال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ )[الفرقان: 63]، ثم ذكر أوصافهم الجميلة التي إنما نالوها برحمته وتبوؤوا منازلها برحمته، وجازاهم بمحبته وقُربه ورضوانه، وثوابه، وكرامته برحمته»[10].
2- تعظيمه سبحانه وإجلاله وإخلاص العبودية له وحده من توكل، وخوف، ورجاء ورغبة، ورهبة، وصلاة، وصيام، وذبح، ونذر، وغير ذلك من أنواع العبوديات التي لا يجوز صرفها إلا له سبحانه.
3- الشـعور بالعـزة به سـبحانه والتعلق به وحده، وسقوط الخوف والهيبة من الخلق والتعلق بهم؛ فهـو الله سـبحانه خالق كل شيء ورازق كل حي، وهو المدبر لكـل شيء، والقاهـر لكل شيء فلا يعـتز إلا به ولا يتوكل إلا عليه. وكم من بشر اعتزوا بأموالهم فما لبثت أن ضاعت تلك الأموال فضاعوا، وكم من بشر اعتزوا بسلطانهم فجاءت النهاية بزوال سلطانهم فما كان منهم إلا أن قالوا: ( مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ) [الحاقة: 29].
فالمؤمن لا يحتمي ولا يعتز إلا بالله العظيم القوي المتين، الكبير المتعال ولا يتوكـل إلا عليه وحـده: ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ) [الفرقان: 58].
4- من أعظم آثار هذا الاسم العظيم ومعرفته حق المعرفة طمأنينة القلب وسعادته وأنسه بالله - عز وجل - وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «فإن اللذة والفرحة وطيب الوقت والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه إنما هو في معرفة الله - سبحانه وتعالى - وتوحيده والإيمان به، وانفتاح الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية، كما قال بعض الشيوخ: لقد كنت في حال أقول فيها إن كان أهل الجنة في هذه الحال إنهم لفي عيش طيب.. .وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله والتقرب إليه بما يحبه ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه. وهذه حقيقة لا إله إلا الله»[11].
5- بما أن لفظ الجلالة مستلزم لجميع الأسماء والصفات فإن من آثار هذا الاسم العظيم آثار بقية أسمائه سبحانه وصفاته وكل أثر من آثار أسماء الله - عز وجل - وصفاته إن هو إلا أثر لهذا الاسم العظيم ومن موجباته.
6- إفراد الله - عز وجل - بالمحبة والولاء وإفـراده تعالى بالـحكم والتحاكم.
قال الله تعالى: ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )[الأنعام: 14]، وقال سبحانه: ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا )[الأنعام: 114].
* من كتاب ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها . دراسة تربوية للآثارالإيمانية والسلوكية لأسماء الله الحسنى ) للشيخ / عبدالعزيز بن ناصر الجليل . ط . دار طيبة 1429هـ .
إعداد/ فهد الوصيفر
--------------------------------------------------------------------------------
[1] القرطبي 1/102.
[2] سنن أبي داود (1493).
[3] بدائع الفوائد 2/212.
[4] انظر: أسماء الله الحسنى د/ الأشقر 33، 34.
[5] سبق تخريجه ص 76.
[6] سنن النسائي (1300) وأبو داود (1495)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1326).
[7] الترمذي (3400)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2764).
[8] مجموع الفوائد واقتناص الأوابد ص 251.
[9] البخاري (16).
[10] فتح الرحيم الملك العلام ص 21، 22.
[11] مجموع الفتاوى 28/31.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد :
فـ(الله) هو الاسم الأعظم على الأرجح، يقول القرطبي رحمه الله: «وهذا الاسم هو أكبر أسمائه وأجمعها حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم، ولم يتسم به غيره، ولذلك لم يثن، ولم يجمع وهو أحد تأويلي قوله تعالى: ( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) [مريم: 65]، أي: هل تعلم من تسمى باسمه الذي هو (الله)، (فالله) اسم للموجود الحق الجامع لصفات الألوهية المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد الحقيقي لا إله إلا هو سبحانه»[1].
ومما يرجح قول من قال: إن (الله) هو الاسم الأعظم ما يلي:
1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سـمع أحد الصحابة يدعو بهذا الدعـاء: «اللَّهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصـمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكـن له كفـوًا أحد»؛ قال: (والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)[2].
2- كثرة وروده في كتاب الله تعالى، فقد ورد في كتاب الله (2724) مرة.
3- أن بقية أسمائه تبارك وتعالى تجري مع هذا الاسم مجرى الصفات مع الأسماء، فتقول: من صفات الله العليم الحكيم الكريم، ولا تقول: من صفات العليم الله.
4- اسم الله مستلزم لجميع معاني أسمائه الحسنى، دال عليها بالإجمال، وكل أسمائه وصفاته تفصيل وتبيين لصفات الألوهية التي اشتق منها اسم الله، واسم الله يدل على كونه سبحانه معبودًا، تألهه الخلائق محبة، وتعظيمًا، وخضوعًا، وفزعًا إليه في النوائب والحاجات.
وقال ابن القيم: «الإله هو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى، ولهذا كان القول الصحيح أن الله أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم، وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى»[3].
5- تعرف الرب تبارك وتعالى إلى موسى باسمه الله:
تعرف الله تبارك وتعالى إلى عباده باسمه (الله) كثيرًا، ومن هؤلاء نبي الله موسى عليه السلام عندما أرسله إلى قومه، فعندما كان موسى عليه السلام، عائدًا بأهله من مدين في طـريقه إلى مصـر في ليلة ظلمـاء باردة، رأى على البعد بجانب الطور نارًا، فقال لأهله:( امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[القصص: 30]، وقال له: ( وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ) [طه: 13، 14].
فتعرف الله عز وجل إلى نبيه موسى عليه السلام بأنه اللهُ ربُّ العالمين، وأنه اللهُ الحق الذي لا يستحق العبادة إلا هو.
وقد تعرف الله إلى عباده في كتابه المنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك ومن هذا ما جاء في فاتحة أعظم آيات هذا الكتاب، وهي آية الكرسي، فقد جاء في أولها : (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) [البقرة: 255].
6- دعاؤه - تبارك وتعالى - بهذا الاسم:
أكثر ما يدعى الله - تبارك وتعالى - بلفظ: (اللَّهم)، ومعنى: اللَّهم، ياالله، ولـهذا لا تسـتعمل إلا في الطلب، فلا يقال: اللَّهم غفـور رحيم، بل يقال: اللَّهم اغفـر لي وارحـمني وقد كان الرسـول صلى الله عليه وسلم يدعـو ربه كثيرًا بقوله (اللَّهم)[4].
وللشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - رأي في حقيقة الاسم الأعظم المشار إليه في الحديث حيث يقول: «بعض الناس يظن أن الاسم الأعظم من أسماء الله الحسنى لا يعرفه إلا من خصه الله بكرامة خارقة للعادة، وهذا ظن خطأ فإن الله - تبارك وتعالى - حثنا على معرفة أسمائه وصفاته، وأثنى على من عرفها، وتفقه فيها، ودعا الله بها دعاء عبادة وتعبد، ودعاء مسألة، ولا ريب أنّ الاسم الأعظم منها أولاها بهذا الأمر، فإنه تعالى هو الجواد المطلق الذي لا منتهى لجوده وكرمه، وهو يحب الجود على عباده، ومن أعظم ما جاد به عليهم تعرفه لهم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فالصواب أنّ الأسماء الحسنى كلها حسنى، وكل واحد منها عظيم، ولكن الاسم الأعظم منها كل اسم مفرد أو مقرون مع غيره إذا دل على جميع صفاته الذاتية والفعلية، أو دل على معاني جميع الصفات مثل:
(الله) فإنه الاسم الجامع لمعاني الألوهية كلها، وهي جميع أوصاف الكمال، ومثل: (الحميد المجيد) فإن (الحميد) الاسم الذي دل على جميع المحامد والكمالات لله تعالى، و(المجيد) الذي دل على أوصاف العظمة والجلال ويقرب من ذلك (الجليل الجميل الغني الكريم).
ومثل: (الحي القيوم)، فإن (الحي) من له الـحياة الكاملة العظيمة الـجامعة لجميع معاني الذات، و(القيوم) الذي قام بنفسه، واستغنى عن جـميع خلقه، وقام بـجميع الموجودات، فهـو الاسم الذي تدخل فيه صفات الأفعال كلها.
ومثل: اسمه (العظيم الكبير) الذي له جميع معاني العظمة والكبرياء في ذاته وأسمائه وصفاته، وله جميع معاني التعظيم من خواص خلقه.
ومثل قولك: (يا ذا الجلال والإكرام) فإن الجلال صفات العظمة والكبرياء، والكمالات المتنوعة، والإكرام استحقاقه على عباده غاية الحب، وغاية الذل وما أشبه ذلك.
فعلم بذلك أن الاسم الأعظم اسـم جنس، وهذا هـو الذي تدل عليه الأدلة الشـرعية والاشتقاق، كما في السنة أنه سمع رجلاً يقول: «اللَّهم إني أسألك بأني أشـهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد»، فقال: (والذي نفسي بيده، لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى)[5].
وكذلك الحديث الآخر حين دعا الرجل، فقال: «اللَّهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام، يا حي! يا قيوم! فقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)[6]، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (اسم الله الأعظم في هاتين السورتين: ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ )، ( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ )[7] فمتى دعا الله العبد باسم من هذه الأسـماء العظيمة بـحضور قلب ورقة وانكسـار لم تكـد ترد له دعـوة والله الموفق»[8].
من آثار هذا الاسم العظيم وموجباته :
إذا عرف المؤمن معنى هذا الاسم العظيم وما يستلزم من الأسماء الحسنى والصفات العلا لله تعالى فإنه يطبع في القلب معاني عظيمة وآثارًا جليلة من أهمها:
1- محبة الله - عز وجل - محبة عظيمة تتقدم على محبة النفس، والأهل، والولد، والدنيا جميعًا؛ لأنه المألوه المعبود وحده وهو المنعم المتفضل وحده وهو الذي له الأسماء الحسنى، وهو الذي له الخلق والأمر والحمد كله وهذا يستلزم محبة من يحبه الله تعالى وما يحبه، وبغض ما يبغضه سبحانه، ومن يبغضه، والموالاة والمعاداة فيه. ولا يذوق طعم الإيمان إلا من أحب الله - عز وجل - الحب كله وأحب فيه وأبغض فيه وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)[9].
ولله المثل الأعلى. لو أن مخلوقًا تحلى بصفات الكمال الإنسانية التي يحبها الناس ومع ذلك كان له نعمة ويد على أحد من الناس فماذا سيكون شأن هذا المخلوق في قلوب هؤلاء الناس؟ لا شك أن المحبة العظيمة، والأنس به، والتلذذ بمصاحبته ستكون هي المتمكنة من القلوب نحـوه. وهذا بالنسـبة لمخلوق ضعيف محدود الزمان والمكان قاصر الأخلاق والصفات.وما صدر منه من نعمة فهي من الله - عز وجل - وهي محدودة قاصرة. فكيف بمن له الأسماء الحسنى والصفات العلا وكيف بمن نعمه مدرارة على خلقه في كل نفس وزمان ومكان. أليس هو المستحق للحمد كله، والحب كله، والخوف كله، والرجاء كله، وكل أنواع العبوديات المختلفة؟ بلى والله.
ولذا يجد العبد راحة وطمأنينة عندما يدعو ربه - عز وجل - ويقول: (ياألله أو : اللَّهم) حيث يسكب في نفسه الأمان والرجاء.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: «وعباد الرحمن يألهونه ويعبدونه، ويبذلون له مقدورهم بالتأله القلبي، والروحي، والقولي والفعلي، بحسب مقاماتهم ومراتبهم، فيعرفون من نعوته وأوصافه ما تتسع قواهم لمعرفته، ويحبونه من كل قلوبهم محبةً تتضاءل جميعُ المحابِّ لها، فلا يعارض هذه المحبة في قلوبهم محبة الأولاد والوالدين وجميع محبوبات النفوس، بل خواصهم جعلوا كل محبوبات النفوس الدينية والدنيوية تبعًا لهذه المحبة، فلما تمَّت محبة الله في قلوبهم أحبوا ما أحبه من أشخاص وأعمال، وأزمنة، وأمكنة، فصارت محبتهم وكراهتهم تبعًا لإلههم وسيدهم ومحبوبه.
ولما تمَّت محبة الله في قلوبهم التي هي أصل التأله والتعبد أنابوا إليه فطلبوا قُربه ورضوانه، وتوسَّلوا إلى ذلك وإلى ثوابه بالجد والاجتهاد في فعل ما أمر الله به ورسوله، وفي ترك جميع ما نهى الله عنه ورسوله، وبهذا صاروا محبِّين محبوبين له، وبذلك تحققت عبوديتهم وألوهيتهم لربهم، وبذلك استحقوا أن يكونوا عباده حقًا، وأن يضيفهم إليه بوصف الرحمة حيث قال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ )[الفرقان: 63]، ثم ذكر أوصافهم الجميلة التي إنما نالوها برحمته وتبوؤوا منازلها برحمته، وجازاهم بمحبته وقُربه ورضوانه، وثوابه، وكرامته برحمته»[10].
2- تعظيمه سبحانه وإجلاله وإخلاص العبودية له وحده من توكل، وخوف، ورجاء ورغبة، ورهبة، وصلاة، وصيام، وذبح، ونذر، وغير ذلك من أنواع العبوديات التي لا يجوز صرفها إلا له سبحانه.
3- الشـعور بالعـزة به سـبحانه والتعلق به وحده، وسقوط الخوف والهيبة من الخلق والتعلق بهم؛ فهـو الله سـبحانه خالق كل شيء ورازق كل حي، وهو المدبر لكـل شيء، والقاهـر لكل شيء فلا يعـتز إلا به ولا يتوكل إلا عليه. وكم من بشر اعتزوا بأموالهم فما لبثت أن ضاعت تلك الأموال فضاعوا، وكم من بشر اعتزوا بسلطانهم فجاءت النهاية بزوال سلطانهم فما كان منهم إلا أن قالوا: ( مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ) [الحاقة: 29].
فالمؤمن لا يحتمي ولا يعتز إلا بالله العظيم القوي المتين، الكبير المتعال ولا يتوكـل إلا عليه وحـده: ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ) [الفرقان: 58].
4- من أعظم آثار هذا الاسم العظيم ومعرفته حق المعرفة طمأنينة القلب وسعادته وأنسه بالله - عز وجل - وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «فإن اللذة والفرحة وطيب الوقت والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه إنما هو في معرفة الله - سبحانه وتعالى - وتوحيده والإيمان به، وانفتاح الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية، كما قال بعض الشيوخ: لقد كنت في حال أقول فيها إن كان أهل الجنة في هذه الحال إنهم لفي عيش طيب.. .وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله والتقرب إليه بما يحبه ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه. وهذه حقيقة لا إله إلا الله»[11].
5- بما أن لفظ الجلالة مستلزم لجميع الأسماء والصفات فإن من آثار هذا الاسم العظيم آثار بقية أسمائه سبحانه وصفاته وكل أثر من آثار أسماء الله - عز وجل - وصفاته إن هو إلا أثر لهذا الاسم العظيم ومن موجباته.
6- إفراد الله - عز وجل - بالمحبة والولاء وإفـراده تعالى بالـحكم والتحاكم.
قال الله تعالى: ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )[الأنعام: 14]، وقال سبحانه: ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا )[الأنعام: 114].
* من كتاب ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها . دراسة تربوية للآثارالإيمانية والسلوكية لأسماء الله الحسنى ) للشيخ / عبدالعزيز بن ناصر الجليل . ط . دار طيبة 1429هـ .
إعداد/ فهد الوصيفر
--------------------------------------------------------------------------------
[1] القرطبي 1/102.
[2] سنن أبي داود (1493).
[3] بدائع الفوائد 2/212.
[4] انظر: أسماء الله الحسنى د/ الأشقر 33، 34.
[5] سبق تخريجه ص 76.
[6] سنن النسائي (1300) وأبو داود (1495)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1326).
[7] الترمذي (3400)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2764).
[8] مجموع الفوائد واقتناص الأوابد ص 251.
[9] البخاري (16).
[10] فتح الرحيم الملك العلام ص 21، 22.
[11] مجموع الفتاوى 28/31.
الله جل جلاله(1)
الله جل جلاله(1)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصبحه ومن والاه إلى يوم الدين . أما بعد:
فإن اسم (الله جل جلاله) هو الجامع لجميع معاني أسماء الله الحسنى، والمتضمن لسائر صفات الله تعالى وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسـنى إلى هذا الاسـم العظـيم كقـوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) ، ويقال: «الرحمن، والرحيم، والقدوس، والسلام، والعزيز، والحكيم» من أسماء الله، ولا يقال: «الله» من أسماء «الرحمن»، ولا من أسماء «العزيز» ونحو ذلك فعلم أن اسمه «الله» مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى دالٌ عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم «الله»، واسم «الله» دالٌ على كونه مألوهًا معبودًا، تألهه الخلائق محبة، وتعظيمًا، وخضوعًا، وفزعًا إليه في الحوائج والنوائب، وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمن لكمال الملك والحمد. وإلهيته، وربوبيته، ورحمانيته، وملكه مستلزم لجميع صفات كماله إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أفعاله.
وصفات الجلال والجمال أخص باسم «الله». وصفات الفعل والقدرة، والتفرد بالضر والنفع، والعطاء والمنع، ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة: أخص باسم «الرب».
وصفات الإحسان، والجود، والبر، والحنان والمنة، والرأفة واللطف أخص باسم «الرحمن» وكرر إيذانًا بثبوت الوصف وحصَول أثره، وتعلقه بمتعلقاته»[1].
وقد ذكر اسم «الله» في القرآن في (2724) مرة، واسم «الله» - تبارك وتعالى - خاص به سبحانه وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه اسم مشتق واختلفوا في أصل اشتقاقه فقيل: إنه من «إله» مثل: «فعال» فأدخلت الألف واللام بدلاً من الهمزة مثل: «الناس» أصله «أناس» فقيل: «الله» فإله «فعال» بمعنى: مفعول كأنه مألوه أي: معبود مستحق للعبادة، يعبده الخلق ويؤلهونه، والتأله: التعبد. وهذا معروف في كلام العرب فهو دال على صفات الألوهية.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه اسم جامد غير مشتق علم على الذات المقدسة وقالوا: أن الألف واللام من بنية هذا الاسم ولم يدخلا للتعريف. والدليل على ذلك: دخول حرف النداء عليه. وحروف النداء لا تجتمع مع الألف واللام اللتين للتعريف فأنت تقول: «يا ألله» ولا تقول: «يالرحمن»، ولا «يالبصير» فدل على أن الألف واللام من بنية الاسم. والصواب أنه مشتق، لأن أصله (إله) بمعنى مألوه، أي معبود، فهو دال على صفات الإلهية.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: «الله: هو المألوه المعبود، ذو الألوهية، والعبودية على خلقه أجمعين، لما اتصف به من صفات الألوهية التي هي صفات الكمال، وأخبر أنه الله الذي له جميع معاني الألوهية وأنه هو المألوه المستحق لمعاني الألوهية كلها، التي توجب أن يكون المعبود وحده، المحمود وحده، المشكور وحده، المعظم المقدس ذو الجلال والإكرام، واسم الله هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى، والله أعلم»[2].
فهو الله الذي لا يسكن العبد إلا إليه، فلا تسكن القلوب إلا بذكره، ولا تفرح العقول إلا بمعرفته، لأنه سبحانه الكامل على الإطلاق دون غيره. وهو الذي لا يفزع العبد ولا يلجأ إلا إليه، لأنه لا مجير حقيقة إلا هو، ولا ناصر حقيقة إلا هو. وهو الذي يلجأ إليه العبد بكل ذرة في كيانه، التجاء شوق ومحبة، فهو سبحانه الكامل في ذاته وصفاته، فلا يأنس إلا به، ولا يفتر عن خدمته، ولا يسأم من ذكره أبدًا. تكاد القلوب المؤمنة أن تتفتت من فرط محبتها له، وتعلقها به. وهو الذي يخضع له العبد ويذل وينقاد تمام الخضوع والذل والانقياد، فيقدم رضاه على رضا نفسه، في كل حال، ويبعد وينأى عن سخطه بكل طريق، هذا مع تمام الرضا والمحبة له سبحانه، فهو يذل وينقاد له سبحانه مع تمام الرضا بذلك، والمحبة له - جل وعلا - حيث إنه الإله الحق، الكامل في ذاته وصـفاته، المسـتحق لذلك كله. ومعنى أن الإله هو المألوه وحده، أي: هو المستحق أن يُفرد بالعبادة وحـده، وهذا هو أهم معاني هذا الاسم للعبد، وذلك حيث إن الله - عز وجل - ما خـلق الـجن والإنس إلا لتحـقيق هذه الغـاية، كما قال سـبحانه: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )[الذاريات: 56][3].
ويوضح شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - معنى (الإله) فيقول: «والإله: هو المألوه أي: المستحق لأن يؤله؛ أي يعبد. ولا يستحق أن يؤله ويعبد إلا الله وحده. وكل معبود سواه من لدن عرشه إلى قرار أرضه باطل، وفعال بمعنى مفعول مثل: لفظ الركاب والحمال؛ بمعنى: المركوب والمحمول... فهو الإله الحق لا إله غيره، فإذا عبده الإنسان فقد وحّده ولم يجعل معه إلهًا آخر ولا اتخذ إلهًا غيره: ( فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ)[الشعراء: 213]، وقال تعالى: ( لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا)[الإسراء: 22]، وقال إبراهيم لأبيه آزر: ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 47]، فالمخلوق ليس بإله في نفسه، لكن عابده اتخذه إلهًا وجعله إلهًا وسماه إلهًا، وذلك كله باطل لا ينفع صاحبه بل يضره.. فغير الله لا يصلح أن يتخذ إلهًا يعبد ويدعى، فإنه لا يخلق ولا يرزق، وهو سبحانه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد... فغير الله لا مالك لشيء، ولا شريك في شيء، ولا معاون للرب في شيء؛ بل قد يكون له شفاعة إن كان من الملائكة، والأنبياء، والصالحين؛ ولكن لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، فلا بد أن يأذن للشافع أن يشفع، وأن يأذن للمشفوع له أن يشفع له، ومن دونه لا يملكون الشفاعة البتة، فلا يصلح من سواه لأن يكون إلهًا معبودًا كما لا يصلح أن يكون خالقًا رازقًا، لا إله إلا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»[4].
(ولا إله إلا الله) هي كلمة التوحيد وقد تضمنت الدين الذي جاء به الرسل كلهم من عند الله ، وهي أعظم كلمة أنزلت من عند الله، وقد تضمنت الحقيقة الكبرى، وبها أصبح الناس مؤمنين وكفارًا، وأخيارًا وأشرارًا، وهي الدالة على تفرد الله بالوحدانية، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) [الأنعام: 19][5].
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: « (الإله): هو الذي يؤله فيعبد محبة، وإنابة، وإجلالاً، وإكرامًا»[6].
ويقول أيضًا: «أما (الإله) فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى»[7].
ويقول أيضًا: «إن (الإله) هو المستحق لصفات الكمال، المنعوت بنعوت الجلال، وهو الذي تألههه القلوب وتعمد إليه بالحب والخوف والرجاء» [8].
ويقول أيضًا: «إن (الإله) الحق: هو الذي يحب لذاته، ويحمد لذاته فكيف إذا انضاف إلى ذلك إحسانه، وإنعامه، وحلمه، وعفوه، وبره، ورحمته فعلى العبد أن يعلم أنه لا إله إلا الله فيحبه ويحمده لذاته وكماله» [9].
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله: «وأوصاف الألوهية هي جميع أوصاف الكمال، وأوصاف الجلال والعظمة والجمال، وأوصاف الرحمة والبرِّ والكرم والامتنان.
فإنَّ هذه الصفات هي التي يستحق أن يُؤلهَ ويُعبد لأجلها، فيؤله لأنَّ له أوصافَ العظمة والكبرياء، ويؤله لأنَّه المتفرِّد بالقيُّومية، والربوبية، والمُلك والسلطان، ويؤله لأنَّه المتفردِّ بالرحمة، وإيصال النِعم الظاهرة والباطنة إلى جميع خلقه، ويؤله لأنَّه المحيط بكلِّ شيء علمًا وحُكْمًا وحكمةً وإحسانًا ورحمة وقدرة وعزة وقهرًا، ويؤله لأنَّه المتفردِّ بالغنى المطلق التام من جميع الوجوه، كما أنَّ ما سواه مفتقر إليه على الدوام من جميع الوجوه، مفتقر إليه في إيجاده وتدبيره، مفتقر إليه في إمداده ورزقه، مفتقر إليه في حاجاته كلِّها، مفتقر إليه في أعظم الحاجات وأشد الضرورات، وهي افتقاره إلى عبادته وحده والتأله له وحده» [10]
--------------------------------------------------------------------------------
* من كتاب ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها . دراسة تربوية للآثارالإيمانية والسلوكية لأسماء الله الحسنى ) للشيخ / عبدالعزيز بن ناصر الجليل . ط . دار طيبة 1429هـ .
[1] مدارج السالكين 1/32, 33.
[2] تفسير السعدي 5/620، الحق الواضح المبين ص 104.
[3] انظر: المفاهيم المثلى في ظلال أسماء الله الحسنى ص 14بتصرف يسير.
[4] مجموع الفتاوى 13/ 202، 205.
[5] أسماء الله الحسنى د/ عمر الأشقر ص31.
[6]طريق الهجرتين ص 108.
[7] بدائع الفوائد 2/212.
[8] شفاء العليل 1/411.
[9] الفوائد ص 203.
[10] فتح الرحيم الملك العلام: ت عبد الرزاق البدر ص 20
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصبحه ومن والاه إلى يوم الدين . أما بعد:
فإن اسم (الله جل جلاله) هو الجامع لجميع معاني أسماء الله الحسنى، والمتضمن لسائر صفات الله تعالى وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسـنى إلى هذا الاسـم العظـيم كقـوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) ، ويقال: «الرحمن، والرحيم، والقدوس، والسلام، والعزيز، والحكيم» من أسماء الله، ولا يقال: «الله» من أسماء «الرحمن»، ولا من أسماء «العزيز» ونحو ذلك فعلم أن اسمه «الله» مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى دالٌ عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم «الله»، واسم «الله» دالٌ على كونه مألوهًا معبودًا، تألهه الخلائق محبة، وتعظيمًا، وخضوعًا، وفزعًا إليه في الحوائج والنوائب، وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمن لكمال الملك والحمد. وإلهيته، وربوبيته، ورحمانيته، وملكه مستلزم لجميع صفات كماله إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أفعاله.
وصفات الجلال والجمال أخص باسم «الله». وصفات الفعل والقدرة، والتفرد بالضر والنفع، والعطاء والمنع، ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة: أخص باسم «الرب».
وصفات الإحسان، والجود، والبر، والحنان والمنة، والرأفة واللطف أخص باسم «الرحمن» وكرر إيذانًا بثبوت الوصف وحصَول أثره، وتعلقه بمتعلقاته»[1].
وقد ذكر اسم «الله» في القرآن في (2724) مرة، واسم «الله» - تبارك وتعالى - خاص به سبحانه وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه اسم مشتق واختلفوا في أصل اشتقاقه فقيل: إنه من «إله» مثل: «فعال» فأدخلت الألف واللام بدلاً من الهمزة مثل: «الناس» أصله «أناس» فقيل: «الله» فإله «فعال» بمعنى: مفعول كأنه مألوه أي: معبود مستحق للعبادة، يعبده الخلق ويؤلهونه، والتأله: التعبد. وهذا معروف في كلام العرب فهو دال على صفات الألوهية.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه اسم جامد غير مشتق علم على الذات المقدسة وقالوا: أن الألف واللام من بنية هذا الاسم ولم يدخلا للتعريف. والدليل على ذلك: دخول حرف النداء عليه. وحروف النداء لا تجتمع مع الألف واللام اللتين للتعريف فأنت تقول: «يا ألله» ولا تقول: «يالرحمن»، ولا «يالبصير» فدل على أن الألف واللام من بنية الاسم. والصواب أنه مشتق، لأن أصله (إله) بمعنى مألوه، أي معبود، فهو دال على صفات الإلهية.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: «الله: هو المألوه المعبود، ذو الألوهية، والعبودية على خلقه أجمعين، لما اتصف به من صفات الألوهية التي هي صفات الكمال، وأخبر أنه الله الذي له جميع معاني الألوهية وأنه هو المألوه المستحق لمعاني الألوهية كلها، التي توجب أن يكون المعبود وحده، المحمود وحده، المشكور وحده، المعظم المقدس ذو الجلال والإكرام، واسم الله هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى، والله أعلم»[2].
فهو الله الذي لا يسكن العبد إلا إليه، فلا تسكن القلوب إلا بذكره، ولا تفرح العقول إلا بمعرفته، لأنه سبحانه الكامل على الإطلاق دون غيره. وهو الذي لا يفزع العبد ولا يلجأ إلا إليه، لأنه لا مجير حقيقة إلا هو، ولا ناصر حقيقة إلا هو. وهو الذي يلجأ إليه العبد بكل ذرة في كيانه، التجاء شوق ومحبة، فهو سبحانه الكامل في ذاته وصفاته، فلا يأنس إلا به، ولا يفتر عن خدمته، ولا يسأم من ذكره أبدًا. تكاد القلوب المؤمنة أن تتفتت من فرط محبتها له، وتعلقها به. وهو الذي يخضع له العبد ويذل وينقاد تمام الخضوع والذل والانقياد، فيقدم رضاه على رضا نفسه، في كل حال، ويبعد وينأى عن سخطه بكل طريق، هذا مع تمام الرضا والمحبة له سبحانه، فهو يذل وينقاد له سبحانه مع تمام الرضا بذلك، والمحبة له - جل وعلا - حيث إنه الإله الحق، الكامل في ذاته وصـفاته، المسـتحق لذلك كله. ومعنى أن الإله هو المألوه وحده، أي: هو المستحق أن يُفرد بالعبادة وحـده، وهذا هو أهم معاني هذا الاسم للعبد، وذلك حيث إن الله - عز وجل - ما خـلق الـجن والإنس إلا لتحـقيق هذه الغـاية، كما قال سـبحانه: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )[الذاريات: 56][3].
ويوضح شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - معنى (الإله) فيقول: «والإله: هو المألوه أي: المستحق لأن يؤله؛ أي يعبد. ولا يستحق أن يؤله ويعبد إلا الله وحده. وكل معبود سواه من لدن عرشه إلى قرار أرضه باطل، وفعال بمعنى مفعول مثل: لفظ الركاب والحمال؛ بمعنى: المركوب والمحمول... فهو الإله الحق لا إله غيره، فإذا عبده الإنسان فقد وحّده ولم يجعل معه إلهًا آخر ولا اتخذ إلهًا غيره: ( فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ)[الشعراء: 213]، وقال تعالى: ( لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا)[الإسراء: 22]، وقال إبراهيم لأبيه آزر: ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 47]، فالمخلوق ليس بإله في نفسه، لكن عابده اتخذه إلهًا وجعله إلهًا وسماه إلهًا، وذلك كله باطل لا ينفع صاحبه بل يضره.. فغير الله لا يصلح أن يتخذ إلهًا يعبد ويدعى، فإنه لا يخلق ولا يرزق، وهو سبحانه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد... فغير الله لا مالك لشيء، ولا شريك في شيء، ولا معاون للرب في شيء؛ بل قد يكون له شفاعة إن كان من الملائكة، والأنبياء، والصالحين؛ ولكن لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، فلا بد أن يأذن للشافع أن يشفع، وأن يأذن للمشفوع له أن يشفع له، ومن دونه لا يملكون الشفاعة البتة، فلا يصلح من سواه لأن يكون إلهًا معبودًا كما لا يصلح أن يكون خالقًا رازقًا، لا إله إلا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»[4].
(ولا إله إلا الله) هي كلمة التوحيد وقد تضمنت الدين الذي جاء به الرسل كلهم من عند الله ، وهي أعظم كلمة أنزلت من عند الله، وقد تضمنت الحقيقة الكبرى، وبها أصبح الناس مؤمنين وكفارًا، وأخيارًا وأشرارًا، وهي الدالة على تفرد الله بالوحدانية، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) [الأنعام: 19][5].
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: « (الإله): هو الذي يؤله فيعبد محبة، وإنابة، وإجلالاً، وإكرامًا»[6].
ويقول أيضًا: «أما (الإله) فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى»[7].
ويقول أيضًا: «إن (الإله) هو المستحق لصفات الكمال، المنعوت بنعوت الجلال، وهو الذي تألههه القلوب وتعمد إليه بالحب والخوف والرجاء» [8].
ويقول أيضًا: «إن (الإله) الحق: هو الذي يحب لذاته، ويحمد لذاته فكيف إذا انضاف إلى ذلك إحسانه، وإنعامه، وحلمه، وعفوه، وبره، ورحمته فعلى العبد أن يعلم أنه لا إله إلا الله فيحبه ويحمده لذاته وكماله» [9].
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله: «وأوصاف الألوهية هي جميع أوصاف الكمال، وأوصاف الجلال والعظمة والجمال، وأوصاف الرحمة والبرِّ والكرم والامتنان.
فإنَّ هذه الصفات هي التي يستحق أن يُؤلهَ ويُعبد لأجلها، فيؤله لأنَّ له أوصافَ العظمة والكبرياء، ويؤله لأنَّه المتفرِّد بالقيُّومية، والربوبية، والمُلك والسلطان، ويؤله لأنَّه المتفردِّ بالرحمة، وإيصال النِعم الظاهرة والباطنة إلى جميع خلقه، ويؤله لأنَّه المحيط بكلِّ شيء علمًا وحُكْمًا وحكمةً وإحسانًا ورحمة وقدرة وعزة وقهرًا، ويؤله لأنَّه المتفردِّ بالغنى المطلق التام من جميع الوجوه، كما أنَّ ما سواه مفتقر إليه على الدوام من جميع الوجوه، مفتقر إليه في إيجاده وتدبيره، مفتقر إليه في إمداده ورزقه، مفتقر إليه في حاجاته كلِّها، مفتقر إليه في أعظم الحاجات وأشد الضرورات، وهي افتقاره إلى عبادته وحده والتأله له وحده» [10]
--------------------------------------------------------------------------------
* من كتاب ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها . دراسة تربوية للآثارالإيمانية والسلوكية لأسماء الله الحسنى ) للشيخ / عبدالعزيز بن ناصر الجليل . ط . دار طيبة 1429هـ .
[1] مدارج السالكين 1/32, 33.
[2] تفسير السعدي 5/620، الحق الواضح المبين ص 104.
[3] انظر: المفاهيم المثلى في ظلال أسماء الله الحسنى ص 14بتصرف يسير.
[4] مجموع الفتاوى 13/ 202، 205.
[5] أسماء الله الحسنى د/ عمر الأشقر ص31.
[6]طريق الهجرتين ص 108.
[7] بدائع الفوائد 2/212.
[8] شفاء العليل 1/411.
[9] الفوائد ص 203.
[10] فتح الرحيم الملك العلام: ت عبد الرزاق البدر ص 20
الله جل جلاله(1)
الله جل جلاله(1)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصبحه ومن والاه إلى يوم الدين . أما بعد:
فإن اسم (الله جل جلاله) هو الجامع لجميع معاني أسماء الله الحسنى، والمتضمن لسائر صفات الله تعالى وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسـنى إلى هذا الاسـم العظـيم كقـوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) ، ويقال: «الرحمن، والرحيم، والقدوس، والسلام، والعزيز، والحكيم» من أسماء الله، ولا يقال: «الله» من أسماء «الرحمن»، ولا من أسماء «العزيز» ونحو ذلك فعلم أن اسمه «الله» مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى دالٌ عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم «الله»، واسم «الله» دالٌ على كونه مألوهًا معبودًا، تألهه الخلائق محبة، وتعظيمًا، وخضوعًا، وفزعًا إليه في الحوائج والنوائب، وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمن لكمال الملك والحمد. وإلهيته، وربوبيته، ورحمانيته، وملكه مستلزم لجميع صفات كماله إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أفعاله.
وصفات الجلال والجمال أخص باسم «الله». وصفات الفعل والقدرة، والتفرد بالضر والنفع، والعطاء والمنع، ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة: أخص باسم «الرب».
وصفات الإحسان، والجود، والبر، والحنان والمنة، والرأفة واللطف أخص باسم «الرحمن» وكرر إيذانًا بثبوت الوصف وحصَول أثره، وتعلقه بمتعلقاته»[1].
وقد ذكر اسم «الله» في القرآن في (2724) مرة، واسم «الله» - تبارك وتعالى - خاص به سبحانه وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه اسم مشتق واختلفوا في أصل اشتقاقه فقيل: إنه من «إله» مثل: «فعال» فأدخلت الألف واللام بدلاً من الهمزة مثل: «الناس» أصله «أناس» فقيل: «الله» فإله «فعال» بمعنى: مفعول كأنه مألوه أي: معبود مستحق للعبادة، يعبده الخلق ويؤلهونه، والتأله: التعبد. وهذا معروف في كلام العرب فهو دال على صفات الألوهية.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه اسم جامد غير مشتق علم على الذات المقدسة وقالوا: أن الألف واللام من بنية هذا الاسم ولم يدخلا للتعريف. والدليل على ذلك: دخول حرف النداء عليه. وحروف النداء لا تجتمع مع الألف واللام اللتين للتعريف فأنت تقول: «يا ألله» ولا تقول: «يالرحمن»، ولا «يالبصير» فدل على أن الألف واللام من بنية الاسم. والصواب أنه مشتق، لأن أصله (إله) بمعنى مألوه، أي معبود، فهو دال على صفات الإلهية.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: «الله: هو المألوه المعبود، ذو الألوهية، والعبودية على خلقه أجمعين، لما اتصف به من صفات الألوهية التي هي صفات الكمال، وأخبر أنه الله الذي له جميع معاني الألوهية وأنه هو المألوه المستحق لمعاني الألوهية كلها، التي توجب أن يكون المعبود وحده، المحمود وحده، المشكور وحده، المعظم المقدس ذو الجلال والإكرام، واسم الله هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى، والله أعلم»[2].
فهو الله الذي لا يسكن العبد إلا إليه، فلا تسكن القلوب إلا بذكره، ولا تفرح العقول إلا بمعرفته، لأنه سبحانه الكامل على الإطلاق دون غيره. وهو الذي لا يفزع العبد ولا يلجأ إلا إليه، لأنه لا مجير حقيقة إلا هو، ولا ناصر حقيقة إلا هو. وهو الذي يلجأ إليه العبد بكل ذرة في كيانه، التجاء شوق ومحبة، فهو سبحانه الكامل في ذاته وصفاته، فلا يأنس إلا به، ولا يفتر عن خدمته، ولا يسأم من ذكره أبدًا. تكاد القلوب المؤمنة أن تتفتت من فرط محبتها له، وتعلقها به. وهو الذي يخضع له العبد ويذل وينقاد تمام الخضوع والذل والانقياد، فيقدم رضاه على رضا نفسه، في كل حال، ويبعد وينأى عن سخطه بكل طريق، هذا مع تمام الرضا والمحبة له سبحانه، فهو يذل وينقاد له سبحانه مع تمام الرضا بذلك، والمحبة له - جل وعلا - حيث إنه الإله الحق، الكامل في ذاته وصـفاته، المسـتحق لذلك كله. ومعنى أن الإله هو المألوه وحده، أي: هو المستحق أن يُفرد بالعبادة وحـده، وهذا هو أهم معاني هذا الاسم للعبد، وذلك حيث إن الله - عز وجل - ما خـلق الـجن والإنس إلا لتحـقيق هذه الغـاية، كما قال سـبحانه: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )[الذاريات: 56][3].
ويوضح شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - معنى (الإله) فيقول: «والإله: هو المألوه أي: المستحق لأن يؤله؛ أي يعبد. ولا يستحق أن يؤله ويعبد إلا الله وحده. وكل معبود سواه من لدن عرشه إلى قرار أرضه باطل، وفعال بمعنى مفعول مثل: لفظ الركاب والحمال؛ بمعنى: المركوب والمحمول... فهو الإله الحق لا إله غيره، فإذا عبده الإنسان فقد وحّده ولم يجعل معه إلهًا آخر ولا اتخذ إلهًا غيره: ( فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ)[الشعراء: 213]، وقال تعالى: ( لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا)[الإسراء: 22]، وقال إبراهيم لأبيه آزر: ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 47]، فالمخلوق ليس بإله في نفسه، لكن عابده اتخذه إلهًا وجعله إلهًا وسماه إلهًا، وذلك كله باطل لا ينفع صاحبه بل يضره.. فغير الله لا يصلح أن يتخذ إلهًا يعبد ويدعى، فإنه لا يخلق ولا يرزق، وهو سبحانه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد... فغير الله لا مالك لشيء، ولا شريك في شيء، ولا معاون للرب في شيء؛ بل قد يكون له شفاعة إن كان من الملائكة، والأنبياء، والصالحين؛ ولكن لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، فلا بد أن يأذن للشافع أن يشفع، وأن يأذن للمشفوع له أن يشفع له، ومن دونه لا يملكون الشفاعة البتة، فلا يصلح من سواه لأن يكون إلهًا معبودًا كما لا يصلح أن يكون خالقًا رازقًا، لا إله إلا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»[4].
(ولا إله إلا الله) هي كلمة التوحيد وقد تضمنت الدين الذي جاء به الرسل كلهم من عند الله ، وهي أعظم كلمة أنزلت من عند الله، وقد تضمنت الحقيقة الكبرى، وبها أصبح الناس مؤمنين وكفارًا، وأخيارًا وأشرارًا، وهي الدالة على تفرد الله بالوحدانية، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) [الأنعام: 19][5].
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: « (الإله): هو الذي يؤله فيعبد محبة، وإنابة، وإجلالاً، وإكرامًا»[6].
ويقول أيضًا: «أما (الإله) فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى»[7].
ويقول أيضًا: «إن (الإله) هو المستحق لصفات الكمال، المنعوت بنعوت الجلال، وهو الذي تألههه القلوب وتعمد إليه بالحب والخوف والرجاء» [8].
ويقول أيضًا: «إن (الإله) الحق: هو الذي يحب لذاته، ويحمد لذاته فكيف إذا انضاف إلى ذلك إحسانه، وإنعامه، وحلمه، وعفوه، وبره، ورحمته فعلى العبد أن يعلم أنه لا إله إلا الله فيحبه ويحمده لذاته وكماله» [9].
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله: «وأوصاف الألوهية هي جميع أوصاف الكمال، وأوصاف الجلال والعظمة والجمال، وأوصاف الرحمة والبرِّ والكرم والامتنان.
فإنَّ هذه الصفات هي التي يستحق أن يُؤلهَ ويُعبد لأجلها، فيؤله لأنَّ له أوصافَ العظمة والكبرياء، ويؤله لأنَّه المتفرِّد بالقيُّومية، والربوبية، والمُلك والسلطان، ويؤله لأنَّه المتفردِّ بالرحمة، وإيصال النِعم الظاهرة والباطنة إلى جميع خلقه، ويؤله لأنَّه المحيط بكلِّ شيء علمًا وحُكْمًا وحكمةً وإحسانًا ورحمة وقدرة وعزة وقهرًا، ويؤله لأنَّه المتفردِّ بالغنى المطلق التام من جميع الوجوه، كما أنَّ ما سواه مفتقر إليه على الدوام من جميع الوجوه، مفتقر إليه في إيجاده وتدبيره، مفتقر إليه في إمداده ورزقه، مفتقر إليه في حاجاته كلِّها، مفتقر إليه في أعظم الحاجات وأشد الضرورات، وهي افتقاره إلى عبادته وحده والتأله له وحده» [10]
--------------------------------------------------------------------------------
* من كتاب ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها . دراسة تربوية للآثارالإيمانية والسلوكية لأسماء الله الحسنى ) للشيخ / عبدالعزيز بن ناصر الجليل . ط . دار طيبة 1429هـ .
[1] مدارج السالكين 1/32, 33.
[2] تفسير السعدي 5/620، الحق الواضح المبين ص 104.
[3] انظر: المفاهيم المثلى في ظلال أسماء الله الحسنى ص 14بتصرف يسير.
[4] مجموع الفتاوى 13/ 202، 205.
[5] أسماء الله الحسنى د/ عمر الأشقر ص31.
[6]طريق الهجرتين ص 108.
[7] بدائع الفوائد 2/212.
[8] شفاء العليل 1/411.
[9] الفوائد ص 203.
[10] فتح الرحيم الملك العلام: ت عبد الرزاق البدر ص 20
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصبحه ومن والاه إلى يوم الدين . أما بعد:
فإن اسم (الله جل جلاله) هو الجامع لجميع معاني أسماء الله الحسنى، والمتضمن لسائر صفات الله تعالى وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسـنى إلى هذا الاسـم العظـيم كقـوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) ، ويقال: «الرحمن، والرحيم، والقدوس، والسلام، والعزيز، والحكيم» من أسماء الله، ولا يقال: «الله» من أسماء «الرحمن»، ولا من أسماء «العزيز» ونحو ذلك فعلم أن اسمه «الله» مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى دالٌ عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم «الله»، واسم «الله» دالٌ على كونه مألوهًا معبودًا، تألهه الخلائق محبة، وتعظيمًا، وخضوعًا، وفزعًا إليه في الحوائج والنوائب، وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمن لكمال الملك والحمد. وإلهيته، وربوبيته، ورحمانيته، وملكه مستلزم لجميع صفات كماله إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أفعاله.
وصفات الجلال والجمال أخص باسم «الله». وصفات الفعل والقدرة، والتفرد بالضر والنفع، والعطاء والمنع، ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة: أخص باسم «الرب».
وصفات الإحسان، والجود، والبر، والحنان والمنة، والرأفة واللطف أخص باسم «الرحمن» وكرر إيذانًا بثبوت الوصف وحصَول أثره، وتعلقه بمتعلقاته»[1].
وقد ذكر اسم «الله» في القرآن في (2724) مرة، واسم «الله» - تبارك وتعالى - خاص به سبحانه وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه اسم مشتق واختلفوا في أصل اشتقاقه فقيل: إنه من «إله» مثل: «فعال» فأدخلت الألف واللام بدلاً من الهمزة مثل: «الناس» أصله «أناس» فقيل: «الله» فإله «فعال» بمعنى: مفعول كأنه مألوه أي: معبود مستحق للعبادة، يعبده الخلق ويؤلهونه، والتأله: التعبد. وهذا معروف في كلام العرب فهو دال على صفات الألوهية.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه اسم جامد غير مشتق علم على الذات المقدسة وقالوا: أن الألف واللام من بنية هذا الاسم ولم يدخلا للتعريف. والدليل على ذلك: دخول حرف النداء عليه. وحروف النداء لا تجتمع مع الألف واللام اللتين للتعريف فأنت تقول: «يا ألله» ولا تقول: «يالرحمن»، ولا «يالبصير» فدل على أن الألف واللام من بنية الاسم. والصواب أنه مشتق، لأن أصله (إله) بمعنى مألوه، أي معبود، فهو دال على صفات الإلهية.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: «الله: هو المألوه المعبود، ذو الألوهية، والعبودية على خلقه أجمعين، لما اتصف به من صفات الألوهية التي هي صفات الكمال، وأخبر أنه الله الذي له جميع معاني الألوهية وأنه هو المألوه المستحق لمعاني الألوهية كلها، التي توجب أن يكون المعبود وحده، المحمود وحده، المشكور وحده، المعظم المقدس ذو الجلال والإكرام، واسم الله هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى، والله أعلم»[2].
فهو الله الذي لا يسكن العبد إلا إليه، فلا تسكن القلوب إلا بذكره، ولا تفرح العقول إلا بمعرفته، لأنه سبحانه الكامل على الإطلاق دون غيره. وهو الذي لا يفزع العبد ولا يلجأ إلا إليه، لأنه لا مجير حقيقة إلا هو، ولا ناصر حقيقة إلا هو. وهو الذي يلجأ إليه العبد بكل ذرة في كيانه، التجاء شوق ومحبة، فهو سبحانه الكامل في ذاته وصفاته، فلا يأنس إلا به، ولا يفتر عن خدمته، ولا يسأم من ذكره أبدًا. تكاد القلوب المؤمنة أن تتفتت من فرط محبتها له، وتعلقها به. وهو الذي يخضع له العبد ويذل وينقاد تمام الخضوع والذل والانقياد، فيقدم رضاه على رضا نفسه، في كل حال، ويبعد وينأى عن سخطه بكل طريق، هذا مع تمام الرضا والمحبة له سبحانه، فهو يذل وينقاد له سبحانه مع تمام الرضا بذلك، والمحبة له - جل وعلا - حيث إنه الإله الحق، الكامل في ذاته وصـفاته، المسـتحق لذلك كله. ومعنى أن الإله هو المألوه وحده، أي: هو المستحق أن يُفرد بالعبادة وحـده، وهذا هو أهم معاني هذا الاسم للعبد، وذلك حيث إن الله - عز وجل - ما خـلق الـجن والإنس إلا لتحـقيق هذه الغـاية، كما قال سـبحانه: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )[الذاريات: 56][3].
ويوضح شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - معنى (الإله) فيقول: «والإله: هو المألوه أي: المستحق لأن يؤله؛ أي يعبد. ولا يستحق أن يؤله ويعبد إلا الله وحده. وكل معبود سواه من لدن عرشه إلى قرار أرضه باطل، وفعال بمعنى مفعول مثل: لفظ الركاب والحمال؛ بمعنى: المركوب والمحمول... فهو الإله الحق لا إله غيره، فإذا عبده الإنسان فقد وحّده ولم يجعل معه إلهًا آخر ولا اتخذ إلهًا غيره: ( فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ)[الشعراء: 213]، وقال تعالى: ( لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا)[الإسراء: 22]، وقال إبراهيم لأبيه آزر: ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 47]، فالمخلوق ليس بإله في نفسه، لكن عابده اتخذه إلهًا وجعله إلهًا وسماه إلهًا، وذلك كله باطل لا ينفع صاحبه بل يضره.. فغير الله لا يصلح أن يتخذ إلهًا يعبد ويدعى، فإنه لا يخلق ولا يرزق، وهو سبحانه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد... فغير الله لا مالك لشيء، ولا شريك في شيء، ولا معاون للرب في شيء؛ بل قد يكون له شفاعة إن كان من الملائكة، والأنبياء، والصالحين؛ ولكن لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، فلا بد أن يأذن للشافع أن يشفع، وأن يأذن للمشفوع له أن يشفع له، ومن دونه لا يملكون الشفاعة البتة، فلا يصلح من سواه لأن يكون إلهًا معبودًا كما لا يصلح أن يكون خالقًا رازقًا، لا إله إلا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»[4].
(ولا إله إلا الله) هي كلمة التوحيد وقد تضمنت الدين الذي جاء به الرسل كلهم من عند الله ، وهي أعظم كلمة أنزلت من عند الله، وقد تضمنت الحقيقة الكبرى، وبها أصبح الناس مؤمنين وكفارًا، وأخيارًا وأشرارًا، وهي الدالة على تفرد الله بالوحدانية، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) [الأنعام: 19][5].
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: « (الإله): هو الذي يؤله فيعبد محبة، وإنابة، وإجلالاً، وإكرامًا»[6].
ويقول أيضًا: «أما (الإله) فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى»[7].
ويقول أيضًا: «إن (الإله) هو المستحق لصفات الكمال، المنعوت بنعوت الجلال، وهو الذي تألههه القلوب وتعمد إليه بالحب والخوف والرجاء» [8].
ويقول أيضًا: «إن (الإله) الحق: هو الذي يحب لذاته، ويحمد لذاته فكيف إذا انضاف إلى ذلك إحسانه، وإنعامه، وحلمه، وعفوه، وبره، ورحمته فعلى العبد أن يعلم أنه لا إله إلا الله فيحبه ويحمده لذاته وكماله» [9].
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله: «وأوصاف الألوهية هي جميع أوصاف الكمال، وأوصاف الجلال والعظمة والجمال، وأوصاف الرحمة والبرِّ والكرم والامتنان.
فإنَّ هذه الصفات هي التي يستحق أن يُؤلهَ ويُعبد لأجلها، فيؤله لأنَّ له أوصافَ العظمة والكبرياء، ويؤله لأنَّه المتفرِّد بالقيُّومية، والربوبية، والمُلك والسلطان، ويؤله لأنَّه المتفردِّ بالرحمة، وإيصال النِعم الظاهرة والباطنة إلى جميع خلقه، ويؤله لأنَّه المحيط بكلِّ شيء علمًا وحُكْمًا وحكمةً وإحسانًا ورحمة وقدرة وعزة وقهرًا، ويؤله لأنَّه المتفردِّ بالغنى المطلق التام من جميع الوجوه، كما أنَّ ما سواه مفتقر إليه على الدوام من جميع الوجوه، مفتقر إليه في إيجاده وتدبيره، مفتقر إليه في إمداده ورزقه، مفتقر إليه في حاجاته كلِّها، مفتقر إليه في أعظم الحاجات وأشد الضرورات، وهي افتقاره إلى عبادته وحده والتأله له وحده» [10]
--------------------------------------------------------------------------------
* من كتاب ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها . دراسة تربوية للآثارالإيمانية والسلوكية لأسماء الله الحسنى ) للشيخ / عبدالعزيز بن ناصر الجليل . ط . دار طيبة 1429هـ .
[1] مدارج السالكين 1/32, 33.
[2] تفسير السعدي 5/620، الحق الواضح المبين ص 104.
[3] انظر: المفاهيم المثلى في ظلال أسماء الله الحسنى ص 14بتصرف يسير.
[4] مجموع الفتاوى 13/ 202، 205.
[5] أسماء الله الحسنى د/ عمر الأشقر ص31.
[6]طريق الهجرتين ص 108.
[7] بدائع الفوائد 2/212.
[8] شفاء العليل 1/411.
[9] الفوائد ص 203.
[10] فتح الرحيم الملك العلام: ت عبد الرزاق البدر ص 20
الرب(2)
[الـرب] (2) 1
بقلم / الشيخ عبدالعزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمن آثار الإيمان باسمه سبحانه (الرب):
أولاً: إن اسم (الرب) سبحانه وما يستلزم من الأسماء والصفات يتضمن تعريف الناس غايتهم التي خلقوا من أجلها، وتعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم؛ فكونه رب العالمين لا يليق به أن يترك عباده سدى هملاً لا يعرفهم بنفسه ولا بما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، وما يضرهم فيها.. فهذا هضم للربوبية ونسبة للرب إلى ما لا يليق: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : 115]
ثانيًا: الإقرار بربوبية الله - عز وجل - يقتضي ويستلزم توحيد الله - عز وجل - وعبادته لا شريك له إذ أن الخالق لهذا الكون وما فيه والمتصرف فيه بالإحياء، والإماتة، والخلق، والرزق، والتدبير هو المستحق للعبادة وحـده إذ كيف يعبد مخلوق ضعيف، ويجعل ندًا لله تعالى في المحبة والتعظيم والعبادة وهو لم يخلق ولا يملك لنفسه تدبيرًا فضلاً عن أن يملكه لغيره، وهـذا ما احتج الله - عز وجل - به على المشركين الذين أقروا بربوبيته سبحانه ولكنهم لم يعبدوه وحده، بل أشركوا معه غيره وقد جاءت هـذه الاحتجاجات الكثيرة في القرآن الكريم بأساليب متنوعة منها:
- قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة :21- 22].
- وقوله تعالى: (أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [الأعراف : 191] وقوله سبحانه: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : 17].
- وقوله تعالى: (قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) [المؤمنون :88- 89].
- وقوله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) [الزمر : 38] . والآيات في هذا كثيرة جدًا.
ثالثًا: الإيمان بصفة الربوبية لله - عز وجل – يعني: الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، إذ إن من صفات الرب سبحانه كونه قادرًا خالقًا بارئًا مصورًا، حيًا، قيومًا عليمًا، سميعًا، بصيرًا، محسنًا، جوادًا، كريمًا، معطيًا، مانعًا. وقل ذلك في بقية الأسماء والصفات. إذاً فكل أثر من آثار الإيمان بالأسماء الحسنى - والتي سيأتي تفصيلها - إن شاء الله تعالى - هو في الحقيقة راجع إلى ما يتضمنه اسم (الرب) سبحانه وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: «إن ربوبيته سبحانه إنما تتحقَّق بكونه: فعَّالاً مُدبِّرًا؛ متصرِّفًا في خلقه؛ يعلم، ويقدر، ويريد، ويسمع، ويبصر.
فإذا انتفت أفعاله وصفاته: انتفت ربوبيته، وإذا انتفت عنه صفة الكلام: انتفى الأمر والنهي ولوازمها، وذلك ينفي حقيقة الإلهية» [ مختصر الصواعق المرسلة 2/474].
ويقول أيضًا: «إن (الرب): هو القادر الخالق البارئ المصور؛ الحي القيوم؛ العليم السميع البصير؛ المحسن المنعم الجواد؛ المعطي المانع؛ الضار النافع؛ المقدم المؤخر؛ الذي يُضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء؛ ويُسعد من يشاء، ويُشقي ويُعِزُّ من يشاء ويُذِلُّ من يشاء؛ إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى» [ بدائع الفوائد 2/212].
رابعًا: الإيمان باسم (الرب) - عز وجل - وما يتعلق به من صفات يقتضي الرضا به سبحانه ربًا وإلهًا وحاكمًا ومشرعًا، لأن الرضا بربوبيته - عز وجل - هو رضا العبد بما يأمره به ربه وينهاه عنه، ويقسمه له ويقدره عليه، ويعطيه إياه ويمنعه منه. فمن لم يحصل الرضى بذلك كله لم يكن العبد قد رضي به ربًا من جميع الوجوه، ولا يذوق عبد طعم الإيمان حتى يأتي بكل موجبات الربوبية ولوازمها. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً) [ مسلم (34)، وأحمد 1/208]. ومتى ذاق العبد طعم الإيمان فلا تسأل عن سعادته، وأنسه، وطمأنينيته وثباته، ولو احتوشته البلايا والرزايا. كما أن من هذا شأنه فإن طاعات الله - عز وجل - تسهل عليه وتلذ له ، كما يكون في قلبه كره معاصي الله - عز وجل - والنفور منها.
خامسًا: لما كان من معاني (الرب) أنه الذي يربي عباده وينقلهم من طور إلى طور وينعم عليهم بما يقيم حياتهم ومعاشهم. وهو الذي أحسن خلقهم وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى. فإن هذه المعاني من شأنها أن تورث في قلب العبد المحبة العظيمة لربه سبحانه وحب ما يحبه ومن يحبه، وبغض ما يبغضه ومن يبغضه، والمسارعة في مرضاته، وتعظيمه وإجلاله وشكره وحمده الحمد اللائق بجلاله وعظمته وسلطانه وإنعامه.
سادسًا: لما كان من معاني (الرب) أنه المتكفل بأرزاق خلقه، وعنده خزائن السماوات والأرض له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. فإن هذه الصفات تورث في قلب العبد العارف لربه سبحانه قوة عظيمة في التوكل عليه سبحانه في جلب المنافع، ودفع المضار، وفي تصريف جميع أموره فلا يتعلق إلا بالله تعالى ولا يرجو إلا هو، ولا يخاف إلا منه سبحانه إذ كيف يتعلق بمخلوق ضعيف مثله لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا. فضلاً عن أن يملكه لغيره.
سابعًا: لما كان من معاني الربوبية اختصاصه سبحانه بجلب المنافع ودفع المضار، وتفريج الكروب، وقضاء الحاجات فإن العباد - بما أودع الله في فطرهم من معرفة ربهم بهذه الصفات - يلجأون إلى ربهم ويتضرعون إليه في الشدائد والملمات وينفضون أيديهم من كلٍ سوى الله - عز وجل - وكلما عرف العبد ربه بأسمائه وصفاته أثر هذا في دعائه وقوة رجائه، ولجوئه، وتضرعه لربه سبحانه والوثوق بكفايته سبحانه وقدرته على قضاء حوائج عباده.
ولذلك نرى في أدعية أنبيائه - سبحانه وتعالى - وأوليائه تكرار الدعاء بقولهم: (ربنا، ربنا).
ثامنًا: نهى النبي صلى الله عليه وسلم العبد أن يقول لسيده (ربي) فقال: (لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وَضِّئ ربك، وليقل: سيدي مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي، أَمَتي، وليقُل: فتاي، وفتاتي، وغلامي) [البخاري (2552)].
قال الحافظ ابن حجر: «وفيه نهي العبد أن يقول لسيده (ربي) وكذلك نهي غيره فلا يقول له أحد ربك، ويدخل في ذلك أن يقول السيد ذلك عن نفسه، فإنه قد يقول لعبده اسق ربك، فيضع الظاهر موضع الضمير على سبيل التعظيم لنفسه.
والسبب في النهي أن حقيقة الربوبية لله تعالى، لأن (الرب) هو المالك القائم بالشيء، فلا توجـد حقيقة ذلك إلا لله تعالى. قال الخطـابي: سبب المنع أن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد لله، وترك الإشراك معـه، فكره له المضاهاة في الاسـم لئلا يدخل في معنى الشـرك، ولا فرق في ذلك بين الحر والعبد، فأما ما لا تعـبد عليه من سـائر الحيوانات والجمادات فلا يكره إطلاق ذلك عليه عند الإضافة كقوله: رب الدار، ورب الثوب.
قال ابن بطال: لا يجوز أن يقال لأحد غير الله رب، كما لا يجوز أن يقال له إله.
[وتعقبه الحافظ بقوله]: والذي يختص بالله تعالى إطلاق (الرب) بلا إضافة، أما مع الإضافة فيجـوز إطلاقه كما في قوله تعـالى حكاية عن يوسف عليه السلام: (اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ ) [يوسف : 42] ، وقولـه: ( ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) [يوسف : 50]، وقوله عليه الصلاة والسلام في أشراط الساعة: (أن تلد الأمة ربها) فدلَّ على أن النهي في ذلك محمول على الإطلاق، ويحتمل أن يكون النهي للتنزيه، وما ورد من ذلك فلبيان الجواز...
وقيل: المراد: النهي عن الإكثار من ذلك واتخاذ استعمال هذه اللفظة عادة، وليس المراد النهي عن ذكرها في الجملة» أهـ [فتح الباري 5/179].
وترك استعمال هذه الكلمة لورود النهي عنها أسلم وأحوط والله أعلم.
ذكر الأسماء الحسنى التي اقترنت باسم (الرب) تبارك وتعالى.
ورد اقتران اسم (الرب) - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم بأسماء كريمة هي: (الرحمن، الرحيم، الغفور، الغفار، العزيز).
• قال سبحانه وتعالى: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة :2- 3].
• وقال - عز وجل -: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً) [النبأ : 37].
• وقال تبارك وتعالى (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) [صـ : 66].
• وقال تبارك وتعالى: (سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) [يس : 58].
• وقال سبحانه (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) [سبأ : 15].
وبتأمل هذه الأسماء المقترنة باسم (الرب) تعالى نجد أن فيها صفة الرحـمة والمغفرة، وفي هـذا التأكيد على أن من أخص صفات (الرب) - عز وجل - الرحمة والرأفة بعباده وأنها من موجبات ربوبيته. ومن ذلك تربيته لعباده، وإنعامه عليهم، وإرساله الرسل إليهم وإنذارهم وتبشيرهم. وهذه هي من لوازم التربية العامة، وأما التربية الخاصة من الله - عز وجل - لأوليائه بتوفيقهم، وحفظهم، ورعايتهم، وتربيتهم. فالرحمة، والرأفة، والمغفرة واضحة جلية في ذلك والله أعلم، وفي الآية الثانية ورد اسم: (العزيز الغفار). وصفة: (العزة والغلبة) من موجبات الربوبية والسؤدد.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «واقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشة برحمته: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه : 5] مطابق لقوله: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة :2- 3] فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى شمول الرحمة وسعتها. فوسع كل شيء برحمته وربوبيته، مع أن في كونه ربّاً للعالمين ما يدل على علوه على خلقه وكونه فوق كل شيء، كما يأتي بيانه إن شاء الله»[مدارج السالكين 1/35].
* من كتاب ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها . دراسة تربوية للآثارالإيمانية والسلوكية لأسماء الله الحسنى ) للشيخ / عبدالعزيز بن ناصر الجليل . ط . دار طيبة 1429هـ .
بقلم / الشيخ عبدالعزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمن آثار الإيمان باسمه سبحانه (الرب):
أولاً: إن اسم (الرب) سبحانه وما يستلزم من الأسماء والصفات يتضمن تعريف الناس غايتهم التي خلقوا من أجلها، وتعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم؛ فكونه رب العالمين لا يليق به أن يترك عباده سدى هملاً لا يعرفهم بنفسه ولا بما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، وما يضرهم فيها.. فهذا هضم للربوبية ونسبة للرب إلى ما لا يليق: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : 115]
ثانيًا: الإقرار بربوبية الله - عز وجل - يقتضي ويستلزم توحيد الله - عز وجل - وعبادته لا شريك له إذ أن الخالق لهذا الكون وما فيه والمتصرف فيه بالإحياء، والإماتة، والخلق، والرزق، والتدبير هو المستحق للعبادة وحـده إذ كيف يعبد مخلوق ضعيف، ويجعل ندًا لله تعالى في المحبة والتعظيم والعبادة وهو لم يخلق ولا يملك لنفسه تدبيرًا فضلاً عن أن يملكه لغيره، وهـذا ما احتج الله - عز وجل - به على المشركين الذين أقروا بربوبيته سبحانه ولكنهم لم يعبدوه وحده، بل أشركوا معه غيره وقد جاءت هـذه الاحتجاجات الكثيرة في القرآن الكريم بأساليب متنوعة منها:
- قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة :21- 22].
- وقوله تعالى: (أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [الأعراف : 191] وقوله سبحانه: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : 17].
- وقوله تعالى: (قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) [المؤمنون :88- 89].
- وقوله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) [الزمر : 38] . والآيات في هذا كثيرة جدًا.
ثالثًا: الإيمان بصفة الربوبية لله - عز وجل – يعني: الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، إذ إن من صفات الرب سبحانه كونه قادرًا خالقًا بارئًا مصورًا، حيًا، قيومًا عليمًا، سميعًا، بصيرًا، محسنًا، جوادًا، كريمًا، معطيًا، مانعًا. وقل ذلك في بقية الأسماء والصفات. إذاً فكل أثر من آثار الإيمان بالأسماء الحسنى - والتي سيأتي تفصيلها - إن شاء الله تعالى - هو في الحقيقة راجع إلى ما يتضمنه اسم (الرب) سبحانه وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: «إن ربوبيته سبحانه إنما تتحقَّق بكونه: فعَّالاً مُدبِّرًا؛ متصرِّفًا في خلقه؛ يعلم، ويقدر، ويريد، ويسمع، ويبصر.
فإذا انتفت أفعاله وصفاته: انتفت ربوبيته، وإذا انتفت عنه صفة الكلام: انتفى الأمر والنهي ولوازمها، وذلك ينفي حقيقة الإلهية» [ مختصر الصواعق المرسلة 2/474].
ويقول أيضًا: «إن (الرب): هو القادر الخالق البارئ المصور؛ الحي القيوم؛ العليم السميع البصير؛ المحسن المنعم الجواد؛ المعطي المانع؛ الضار النافع؛ المقدم المؤخر؛ الذي يُضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء؛ ويُسعد من يشاء، ويُشقي ويُعِزُّ من يشاء ويُذِلُّ من يشاء؛ إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى» [ بدائع الفوائد 2/212].
رابعًا: الإيمان باسم (الرب) - عز وجل - وما يتعلق به من صفات يقتضي الرضا به سبحانه ربًا وإلهًا وحاكمًا ومشرعًا، لأن الرضا بربوبيته - عز وجل - هو رضا العبد بما يأمره به ربه وينهاه عنه، ويقسمه له ويقدره عليه، ويعطيه إياه ويمنعه منه. فمن لم يحصل الرضى بذلك كله لم يكن العبد قد رضي به ربًا من جميع الوجوه، ولا يذوق عبد طعم الإيمان حتى يأتي بكل موجبات الربوبية ولوازمها. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً) [ مسلم (34)، وأحمد 1/208]. ومتى ذاق العبد طعم الإيمان فلا تسأل عن سعادته، وأنسه، وطمأنينيته وثباته، ولو احتوشته البلايا والرزايا. كما أن من هذا شأنه فإن طاعات الله - عز وجل - تسهل عليه وتلذ له ، كما يكون في قلبه كره معاصي الله - عز وجل - والنفور منها.
خامسًا: لما كان من معاني (الرب) أنه الذي يربي عباده وينقلهم من طور إلى طور وينعم عليهم بما يقيم حياتهم ومعاشهم. وهو الذي أحسن خلقهم وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى. فإن هذه المعاني من شأنها أن تورث في قلب العبد المحبة العظيمة لربه سبحانه وحب ما يحبه ومن يحبه، وبغض ما يبغضه ومن يبغضه، والمسارعة في مرضاته، وتعظيمه وإجلاله وشكره وحمده الحمد اللائق بجلاله وعظمته وسلطانه وإنعامه.
سادسًا: لما كان من معاني (الرب) أنه المتكفل بأرزاق خلقه، وعنده خزائن السماوات والأرض له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. فإن هذه الصفات تورث في قلب العبد العارف لربه سبحانه قوة عظيمة في التوكل عليه سبحانه في جلب المنافع، ودفع المضار، وفي تصريف جميع أموره فلا يتعلق إلا بالله تعالى ولا يرجو إلا هو، ولا يخاف إلا منه سبحانه إذ كيف يتعلق بمخلوق ضعيف مثله لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا. فضلاً عن أن يملكه لغيره.
سابعًا: لما كان من معاني الربوبية اختصاصه سبحانه بجلب المنافع ودفع المضار، وتفريج الكروب، وقضاء الحاجات فإن العباد - بما أودع الله في فطرهم من معرفة ربهم بهذه الصفات - يلجأون إلى ربهم ويتضرعون إليه في الشدائد والملمات وينفضون أيديهم من كلٍ سوى الله - عز وجل - وكلما عرف العبد ربه بأسمائه وصفاته أثر هذا في دعائه وقوة رجائه، ولجوئه، وتضرعه لربه سبحانه والوثوق بكفايته سبحانه وقدرته على قضاء حوائج عباده.
ولذلك نرى في أدعية أنبيائه - سبحانه وتعالى - وأوليائه تكرار الدعاء بقولهم: (ربنا، ربنا).
ثامنًا: نهى النبي صلى الله عليه وسلم العبد أن يقول لسيده (ربي) فقال: (لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وَضِّئ ربك، وليقل: سيدي مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي، أَمَتي، وليقُل: فتاي، وفتاتي، وغلامي) [البخاري (2552)].
قال الحافظ ابن حجر: «وفيه نهي العبد أن يقول لسيده (ربي) وكذلك نهي غيره فلا يقول له أحد ربك، ويدخل في ذلك أن يقول السيد ذلك عن نفسه، فإنه قد يقول لعبده اسق ربك، فيضع الظاهر موضع الضمير على سبيل التعظيم لنفسه.
والسبب في النهي أن حقيقة الربوبية لله تعالى، لأن (الرب) هو المالك القائم بالشيء، فلا توجـد حقيقة ذلك إلا لله تعالى. قال الخطـابي: سبب المنع أن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد لله، وترك الإشراك معـه، فكره له المضاهاة في الاسـم لئلا يدخل في معنى الشـرك، ولا فرق في ذلك بين الحر والعبد، فأما ما لا تعـبد عليه من سـائر الحيوانات والجمادات فلا يكره إطلاق ذلك عليه عند الإضافة كقوله: رب الدار، ورب الثوب.
قال ابن بطال: لا يجوز أن يقال لأحد غير الله رب، كما لا يجوز أن يقال له إله.
[وتعقبه الحافظ بقوله]: والذي يختص بالله تعالى إطلاق (الرب) بلا إضافة، أما مع الإضافة فيجـوز إطلاقه كما في قوله تعـالى حكاية عن يوسف عليه السلام: (اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ ) [يوسف : 42] ، وقولـه: ( ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) [يوسف : 50]، وقوله عليه الصلاة والسلام في أشراط الساعة: (أن تلد الأمة ربها) فدلَّ على أن النهي في ذلك محمول على الإطلاق، ويحتمل أن يكون النهي للتنزيه، وما ورد من ذلك فلبيان الجواز...
وقيل: المراد: النهي عن الإكثار من ذلك واتخاذ استعمال هذه اللفظة عادة، وليس المراد النهي عن ذكرها في الجملة» أهـ [فتح الباري 5/179].
وترك استعمال هذه الكلمة لورود النهي عنها أسلم وأحوط والله أعلم.
ذكر الأسماء الحسنى التي اقترنت باسم (الرب) تبارك وتعالى.
ورد اقتران اسم (الرب) - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم بأسماء كريمة هي: (الرحمن، الرحيم، الغفور، الغفار، العزيز).
• قال سبحانه وتعالى: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة :2- 3].
• وقال - عز وجل -: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً) [النبأ : 37].
• وقال تبارك وتعالى (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) [صـ : 66].
• وقال تبارك وتعالى: (سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) [يس : 58].
• وقال سبحانه (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) [سبأ : 15].
وبتأمل هذه الأسماء المقترنة باسم (الرب) تعالى نجد أن فيها صفة الرحـمة والمغفرة، وفي هـذا التأكيد على أن من أخص صفات (الرب) - عز وجل - الرحمة والرأفة بعباده وأنها من موجبات ربوبيته. ومن ذلك تربيته لعباده، وإنعامه عليهم، وإرساله الرسل إليهم وإنذارهم وتبشيرهم. وهذه هي من لوازم التربية العامة، وأما التربية الخاصة من الله - عز وجل - لأوليائه بتوفيقهم، وحفظهم، ورعايتهم، وتربيتهم. فالرحمة، والرأفة، والمغفرة واضحة جلية في ذلك والله أعلم، وفي الآية الثانية ورد اسم: (العزيز الغفار). وصفة: (العزة والغلبة) من موجبات الربوبية والسؤدد.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «واقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشة برحمته: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه : 5] مطابق لقوله: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة :2- 3] فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى شمول الرحمة وسعتها. فوسع كل شيء برحمته وربوبيته، مع أن في كونه ربّاً للعالمين ما يدل على علوه على خلقه وكونه فوق كل شيء، كما يأتي بيانه إن شاء الله»[مدارج السالكين 1/35].
* من كتاب ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها . دراسة تربوية للآثارالإيمانية والسلوكية لأسماء الله الحسنى ) للشيخ / عبدالعزيز بن ناصر الجليل . ط . دار طيبة 1429هـ .
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)
مشاركة مميزة
-
Can I sign u AHMED MOHAMED EL-WAZIRY" , "sami _rn2000" , "FAIRS animal" , "DR Abd-El-Rahman" , &quo...
-
http://www.ahram.org.eg/Egypt/News/123073.aspx اللهم لاتجعل هلاك مصر على يد الجنزورى اد-عبدالعزيزنور nouraziz2000@yahoo.com (رسالة مو...
-
Inter-Agency Network for Education in Emergencies Terminology of ... Inter-Agency Network for Education in Emergencies Terminology of Fragil...