الخميس، يونيو 6

انقطاع الكهرباء‏..‏ يصعق الاقتصاد‏!‏

انقطاع الكهرباء‏..‏ يصعق الاقتصاد‏!‏

انقطاع الكهرباء‏..‏ يصعق الاقتصاد‏!‏
تحقيق‏:‏ محمد القزاز
1
595
اتفق الكل ـ ومنهم وزارة الكهرباء ـ علي أن الانقطاع المستمر للتيار يتسبب في خسائر بالغة للاقتصاد المصري‏,‏ ولكن لا احد بما في فيها وزارة الكهرباء  لم تسع إلي تحديد هذه الخسائر بالأرقام, ولم تسع إلي تقديم الحلول البديلة لتلافي الانقطاع وتقليل الخسائر. ويبدو أن نبوءة أن الصيف القادم هو الصيف الأسود الذي حذرت منه الأهرام منذ فترة سوف تتحقق, فإضافة إلي انقطاع الكهرباء عن المحروسة كلها, سوف تتبعه خسائر لا حصر لها في الاقتصاد المصري سواء الرسمي أو غير الرسمي.
الدكتورة أمنية حلمي المدير التنفيذي للمركز المصري للدراسات الاقتصادية قالت: إن معدل النمو السنوي في الكهرباء أقل من معدل الاستهلاك, فمنذ2000 الي2010 كان معدل انتاج الطاقة4% بينما الاستهلاك5.2% وبالتالي هناك فجوة, وأشارت إلي أن وجود دعم للطاقة كثيفة الاستهلاك وللمواطنين يشجع علي عدم ترشيد الاستهلاك بسبب وجود هذا الدعم فهناك استمرار لزيادة الاستهلاك بينما هناك تباطؤ في معدل الانتاج, ولذا فمن الطبيعي أن يحدث الانقطاع.
وبالنسبة للآثار الاقتصادية, قالت د. أمنية حلمي إن هناك42% من انتاج الطاقة يستخدمه القطاع الصناعي وحين ينقطع التيار يتوقف الانتاج أو يتباطأ, وفي ظل الارتباطات التعاقدية في السوق المحلية أو الخارجية واستمرارانقطاع الكهرباء يجعلها لا تفي بالتعاقدات, وبالتالي تخسر قدرا من الارباح وتضطر لدفع الشرط الجزائي وبالتالي اهتزاز موقفها في السوق العالمية, والأخطر أنه يتسبب في طرد العمالة أو تقليل الورديات وبالتالي يؤثر علي دخل العمالة, ما يوازي نحو20% من الانتاج.
وتستطرد د. أمنية بأن مخاطرقطع الكهرباء تكون أكثر علي رأس المال البشري والانتاجية, والطلبة والاطباء والمرضي حيث يتعرضون لمخاطر صحية وكذلك مستقبل التلاميذ, والصناعات كثيفة الطاقة, واهتزاز القدرة التنافسية, فمناخ الاعمال يتاثر سلبا, فانقطاع التيار الكهرباء يقلل من رؤية المستثمرين للسوق, والرغبة في دخولها.
بينما يري د.صلاح جودة المستشار الاقتصادي لمفوضية العلاقات الأوروبية أن من أسباب التقدم هو الطاقة وحيث إن الكهرباء خلال الشهور الستة الماضية في الفترة من(2012/12/15) وحتي(2013/5/22) داومت علي الانقطاعبسبب عدم العمل بكامل طاقة المحطات الكهربائية الموجودة وتوقف أكثر من12 محطة كهرباء عن العمل بالكامل, إضافة إلي نقص الوقود خاصه المازوت والغاز بصورة متكررةيؤدي ذلك الي توقف المحطات عن العمل,زيادة الاحمال علي المحطات الكهربائية فضلا عن زيادة استخدام الكهرباء بسبب الحر الشديد وهو مما يعمل علي زيادة استخدام أجهزة التكييف والتبريد وغيرهما, لذا فإن الآثار الاقتصادية لانقطاع الكهرباء كانت واضحة أكثر علي المناطق الصناعية بالكامل والفنادق والقري السياحية والمستشفيات, وكذلك المصانع الكبيرة مثل مصنع مجمع الالومنيوم بمنطقة( نجع حمادي) في محافظه قنا, حيث يقوم بسداد فاتورة كهرباء شهريا تبلغ(122 مليون جنيه) اي نحو(1.144) مليار جنيه سنويا, ونجد أن الحكومة أعلنت عن توقف إنتاج مصنع الالومنيوم يوميا(4 ساعات) وهذا يكلف المصنع خسائر يومية تبلغ(15 مليون جنيه) أي ما يعادل(4500 مليون جنيه) اي(4.5 مليار جنيه سنويا) علي الأقل وهذا بالنسبة لمصنع واحد فقط.
ويشير د. جودة إلي أنه بمراجعة بسيطة للخسائر الاقتصادية للمناطق الصناعية بلغت مليار جنيه خلال الستة أشهر الماضية عن انقطاع الكهرباء نجد أن الخسائر المبدئية لمدينة العاشر من رمضان نتيجة توقف معظم المصانع وعدم العمل بالطاقة الكاملة للمصانع بسبب انقطاعالكهرباء وكذلك الخسائر الناجمة عن إحتراق معظم خطوط الانتاج نتاج إهتزاز قوة الكهرباء بينما تبلغ الخسائر المبدئية لمدينة برج العرب نتاج ذات الاسباب السابقة ما قيمته(1.5 مليار جنيه), أيضا فإن خسائر مدينة6 أكتوبر بلغت مالا يقل عن(3.5 مليار جنيه) لأنها هي الأكثر انقطاعا للكهرباء برغم وجود( مدينه الانتاج الاعلامي بالمدينة) بينما تجاوزت الخسائر للمنطقة الصناعية لشبرا الخيمة الــ(600 مليون جنيه) بسبب إنقطاع الكهرباء وتاثر الانتاج, وقد توقفت مصانع كثيرة عن العمل واستغنت بعض المصانع عن جزء كبير من العمالة بسبب انقطاع الكهرباء لفترات طويلة مما أثر علي جودة المنتجات وكذلك عدم الالتزام بالمواعيد اللازمة, لتسليم الطلبيات أو الشحن للخارج.
ويضيف د. صلاح أنه بمراجعة شاملة لمعظم خسائر المصانع والمناطق الصناعية نجد أنها قد تخطت حاجز الــ(100 مليار جنيه) خلال الاشهر الستةالماضية, أما الفنادق والقري السياحية فان انقطاع الكهرباء قد أثر علي حركه الاشغال بما يبلغ نحو(30%), وبالنسبة للمستشفيات نجد إنها تكبدت بسبب انقطاع الكهرباء خلال الأشهر الستةالماضية تمثلت في خسائر بشرية ممثلة في وفاة عدد كبير من المرضي خاصة الاطفال في الحضانات ووفاة آخرين في غرف العناية المركزة فضلا عن خسائر مادية نتاج انقطاع الكهرباء وفساد معظم الآلات والمعدات وتأخر علاج البعض مما كلف الدولة حوالي(25 مليار جنيه) خلال الـــ(6 أشهر الماضية).
ويشير د. صلاح حلا لهذه المشكلة والخسائر المتراكمة إلي أننا لابد أن نفكر في إيجاد طرق بديلة لتوفير الطاقة اللازمة للمصانع كثيفة استخدام الطاقة وتوفير الطاقة بالكامل للقري والنجوع بالكامل عن طريق( البيوجاز) والعمل علي أن تعمل جميع اليفط والإعلانات في جميع الشوارع والمحلات وكذلك أعمدة الإنارة بالطاقة الشمسية.

النوبة و القناة و سيناء

النوبة و القناة و سيناء

النوبة و القناة و سيناء
نحن جميعا مصريون متساوون من حيث حقوق المواطنة‏,‏ و لكنا أفرادا و جماعات لسنا متساوين من حيث عطائنا لمصر‏;‏ فهناك من قدموا حياتهم في سبيل أن ننعم نحن بحياتنا‏...  و هناك من قدموا أرواحهم من أجل دحر أعداء الوطن و ردهم عن حدودنا, و هناك من قدموا أرواحهم من أجل العدل الاجتماعي أو من أجل الحرية و الكرامة الإنسانية.
وعلي مستوي الجماعات السكانية المصرية فهي أيضا ليست سواء من حيث عطائها لمصر. إننا كلما ارتشفنا آمنين رشفة ماء, و كلما عبرنا قناة السويس آمنين إلي سيناء, ينبغي أن نحس في كل لحظة بنوع من الامتنان الخاص لأبناء النوبة, و أبناء القناة, و أبناء سيناء.
إن أبناء جيلي يذكرون واقعتي تهجير شهيرتين: التهجير الثالث لأبناء النوبة عام1963 بعد عمليتي تهجير عامي1902 و1912, و تهجير أبناء مدن القناة لفترة امتدت من1967 إلي.1967
لقد عاني أبناء النوبة المرة تلو المرة آلام هجرة قراهم التي نشأوا فيها و ارتبط بها تراثهم المتميز و ذكرياتهم الحميمة, و كانت تلك الهجرات المتتالية و ما صاحبها من آلام ثمنا قدموه لكي يكفلوا لنا جميعا شربة ماء ويكفلوا لأرضنا ريا دائما و يجنبونا مخاطر الفيضان. ألا يستحقون بعد كل ذلك أن نعترف لهم بالفضل؟
لقد كانت مدن القناة دوما مسرحا لمقاومة المحتلين و الغزاة, قاومت جيش الاحتلال البريطاني, و قاومت العدوان الثلاثي1956, و مع هزيمة1967 وقرار مصر بالصمود و رفض الاستسلام و بدء حرب الاستنزاف; تم إخلاء مدن القناة من غالبية سكانها, و كان ذلك ثمنا باهظا دفعه أبناء القناة لمساعدة قواتنا المسلحة حتي نصر أكتوبر.1973 وثمة ذكري شخصية تربط بين أبناء النوبة و أبناء مدن القناة, و تحديدا مدينة السويس, فما زال يتردد في أذني حتي اليوم ذلك الصوت الدافئ للصديق النوبي الراحل محمد حمام و هو يشدو بكلمات الشاعر عبدالرحمن الأبنودي يابيوت السويس يا بيوت مدينتي أستشهد تحتك و تعيشي إنتي. غناها محمد حمام النوبي بين حشود الناس و وسط جنود وضباط الجيش المصري كما لو كانت هذه الأغنية بيانا تاريخيا عن صمود السويس تعبر عن الموقف الوطني و رفض العدوان والتدميرالإسرائيلي للمدن وخاصة مدينة السويس. لقد كتب الأبنودي الكلمات كما لو كانت علي لسان ابن من أبناء مدينة السويس ليغنيها بصدق ابن النوبة محمد حمام و كأنه يستعيد وحدة الألم والتضحية. و لعل استعادتنا لشدو محمد حمام لصمود السويس يذكرنا بأغنية ارتبطت بتاريخ صمود بورسعيد حين شدت شادية بكلمات إسماعيل الحبروك أمانة عليك أمانة يا مسافر بورسعيد أمانة عليك أمانة تبوس لي كل إيد حاربت في بورسعيد. ألا يستحق منا أبناء القناة بعد كل ذلك أن نعترف لهم بالفضل؟.
وأخيرا و ليس آخرا, فقد أشار العقيد أركان حرب أحمد محمد علي المتحدث العسكري للقوات المسلحة, في12 يناير2013 إلي يوم31 أكتوبر1968 موضحا أنه في هذا اليوم وجهت إسرائيل الدعوة لوكالات الأنباء العالمية ومراسلي التليفزيون والصحف من كل أنحاء العالم لحضور مؤتمر صحفي يعلن فيه موشي ديان وزير دفاع الإسرائيلي عن مفاجأة في وجود كبار القيادات في إسرائيل... وقد رتب جيش الدفاع الإسرائيلي لهذا المؤتمر في مدينة الحسنة بوسط سيناء وأحضر شيوخ وعواقل قبائل سيناء ليعلنوا علي العالم المفاجأة التي ستفحم مصر, وهي الإعلان عن رغبة أهالي سيناء في تدويل سيناء وإعلانها دولة منفصلة, وتم تفويض الشيخ سالم الهرش من قبيلة البياضية للحديث باسم شيوخ وعواقل قبائل سيناء أمام الإسرائيليين فإذا به يفاجئ الجميع بقوله: سيناء مصرية مائة في المائة ولا نملك فيها شبرا واحدا يمكننا التفريط فيه.. ومن يريد الحديث عن سيناء يتكلم مع زعيم مصر جمال عبدالناصر.
واختتم المتحدث العسكري كلمته قائلا: تحية إلي سيناء الحبيبة شمالها وجنوبها وتحية لكل شيوخ وعواقل أرضها وتحية للمرحوم الشيخ سالم الهرش وكل مشايخ وعواقل سيناء لوقفتهم الشامخة والرائعة والتي أجهضت المخطط الإسرائيلي... تحية إلي رجال المخابرات الحربية الذين تولوا هذا الملف... تحية لكل موقف وطني رائع قام به أبناء سيناء علي مدي تاريخ الصراع العربي/ الإسرائيلي والذي قاموا به من أعمال بطولية مع المقاتلين المصريين والذي لابد أن يعلمه أجيال مصر الصاعدة. و من الغريب أن الكثير منا لم يلتفت إلي معني تصريح المتحدث العسكري لقواتنا المسلحة و إلي توقيته بالغ الدلالة. تري ألا يستحق منا بدو سيناء بعد كل ذلك أن نعترف لهم بالفضل؟.
إن من يعرفون الأصول ينبغي ألا ينتظروا من أصحاب الفضل عليهم إلي أن يفيض بهم التهميش فيطالبوا بالاعتراف بفضلهم. إنه لأمر يدعو للخجل أن يعاني أبناء سيناء و القناة و النوبة بالذات من ذلك الإحساس بالظلم علي أيدي من كفلوا لهم الكرامة وقبلها الحياة. إن الاعتراف بالفضل لا يعني مجرد التمييز الإيجابي ماديا بل يعني قبل كل ذلك التعبير عن الشعور الدائم بالامتنان

الديانة والشخصية القومية

الديانة والشخصية القومية

عبد الناصر سلامة
الديانة والشخصية القومية
كثيرا ما يوجه إلي سؤال‏:‏ تري ما هي أهم خصائص الشخصية اليهودية؟  و تكون إجابتي دائما هي أنه استنادا لتراث علم النفس بفروعه المتعددة لا يمكن الحديث عن شخصية يهودية,
ولقد قامت أطروحتي للدكتوراة التي كانت عن الشخصية الإسرائيلية: الأشكنازيم علي نفي مقولة إن لليهود شخصية قومية ثابتة رغم تباين التاريخ والمكان بالنسبة للجماعات اليهودية التي تتعدد انتماءاتها القومية لما يزيد علي المائة. ولا يقتصر الأمر بالنسبة للشخصية القومية علي ما يتعلق باليهود وحدهم, فبنفس المعيار يستحيل الحديث عن شخصية إسلامية أو شخصية مسيحية.
ونشهد اليوم في خطاباتنا السياسية تصاعدا ملحوظا لتعبير الشخصية اليهودية; و ربما ارتبط ذلك بما تشهده بلادنا من تصاعد الحديث عن هوية مصر الإسلامية السنية, وما نشهده في إسرائيل من تكريس لمفهوم الدولة اليهودية, بحيث يصبح الحديث في مجمله متسقا متكاملا لا يثير تعجبا.
وإذا تركنا جانبا قضية دين الدولة كقضية كانت وما زالت مثارا للجدل السياسي مما يخرج عن نطاق تخصصنا الدقيق; فإن الحديث عن شخصية الجماعة أمر يحتل مكانة محورية في تخصص علم النفس الاجتماعي و السياسي.
ورب من يتساءل: تري وماذا عن ذلك الكم الهائل من الكتابات عن شخصية يهودية أو مسيحية أو مسلمة؟ إنها في حقيقة الأمر- أحاديث عما ينبغي أن تكون عليه شخصية الفرد من خلال استقراء للنصوص المقدسة و استنباط الملامح السلوكية التي ينبغي أن تميز أتباع تلك الديانات. وبطبيعة الحال فإن القارئ المدقق لمثل تلك الكتابات سوف يكتشف بسهولة أنها تختلف بل تتناقض باختلاف انتماءات القائلين بها, فيتأرجح تصور شخصية النحن الدينية من غاية الاكتمال الحائز علي جميع الفضائل, إلي شخصية الآخر الدينية التي تحوي كل صفات الانحطاط والرذائل. بعبارة أخري فإن ملامح الشخصية اليهودية مثلا في خطابنا تختلف تماما إلي حد التناقض في الحديث عن ملامح تلك الشخصية من وجهة نظر من يروجون لفكرة تميز العرق اليهودي.
و ليس من شك في أن مثل تلك الكتابات تلعب دورا لا ينكره أحد في تماسك الجماعات و تمايزها عن الآخرين الأشرار, و كذلك في طرح هدف سلوكي مثالي لأفراد الجماعة. وغني عن البيان أن هذه التصورات لا بد وأن تقوم علي التعميم أو بالتعبير العلمي علي ترسيخ ما يعرف بالصور النمطية.
وفي المقابل فإن العلوم الاجتماعية جميعا وليس علم النفس فقط تنفر كأشد ما يكون النفور من المثاليات والتصورات النمطية الجامدة, ولا تقيم معرفتها الموضوعية علي شيء من ذلك قط, بل تقوم أساسا علي الرصد العلمي الدقيق لسلوك البشر في عالم الحياة الواقعية.
إن نظرة متأنية إلي أي جماعة إنسانية ــ بالمعني العلمي لمصطلح الجماعة ــ تكشف عن خاصتين بارزتين:
أولا: إن بين أفراد تلك الجماعة قدر لا يمكن التغاضي عنه من الاختلاف في كل نواحي التكوين النفسي و الخلقي بحيث إننا لا يمكن أن نجد ــ في أي جماعة إنسانية- شخصين متماثلين تمام التماثل من حيث تلك التكوينات, حيث يختلف أفراد الجماعة عن بعضهم البعض في كل شيء تقريبا: القدرات العقلية, وخصائص الشخصية, والخصائص الجسمية والاتجاهات والقيم إلي آخره.
ثانيا: إن بين أفراد تلك الجماعة قدر لا يمكن التغاضي عنه من التشابه في كل نواحي التكوين النفسي أيضا, بمعني أننا لابد واجدون قدرا مشتركا بين كل أفراد تلك الجماعة فيما يتصل بقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم وإن كان ذلك القدر يتفاوت من جماعة إلي أخري كما يتفاوت أيضا من فرد إلي آخر من بين أعضاء نفس الجماعة.
هاتان الخاصيتان تتوفران في كل الجماعات الإنسانية دون استثناء, ولعل الخاصية الثانية- أعني خاصية التشابه- هي الأجدر بالتوقف أمامها فيما يتصل بموضوعنا. و يكاد كافة علماء النفس أن يجمعوا علي أن ذلك التشابه في العادات والتقاليد والقيم واتجاهات الرأي العام وما إلي ذلك إنما هي جميعا أمور يكتسبها المرء من بيئته الاجتماعية عبر ما يعرف بعملية التنشئة الاجتماعية, بمعني أن المجتمع يعلم أبناءه عبر توالي الأجيال ما يود غرسه فيهم من عادات وتقاليد وقيم واتجاهات وما إلي ذلك, مما يعني مباشرة استحالة أن يكون ثمة تشابه في الخصائص النفسية بين أفراد جماعة بشرية معينة إلا بقدر تشابه الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية المحيطة بتلك الجماعة.
اليهود إذن شأنهم شأن غيرهم من أصحاب العقائد الدينية- يتباينون في قراءتهم لعقيدتهم, ويتباينون في أنماط سلوكهم وأفكارهم وقيمهم وأخلاقهم بتباين انتماءاتهم القومية, و تباين تواريخهم الاجتماعية الثقافية السياسية بل الشخصية أيضا; فمنهم العلماني والمتدين; ومنهم المتطرف والمتشدد والوسطي; ومنهم المسالم والمحارب;
خلاصة القول إن أحدا لا يستطيع أن يضع جميع من ينتسبون لدين معين في سلة سلوكية واحدة, أو أن يتصور أن لهم شخصية قومية واحدة, حتي لو كان ذلك الدين هو الدين اليهودي.

فريضة سؤال أهل العلم

فريضة سؤال أهل العلم

فريضة سؤال أهل العلم
أتذكر في دروسي الأولي في مادة علم الإنسان‏,‏ وهي مادة تختص بدراسة أنماط السلوك البشري لدي القبائل البدائية‏,‏ كيف أن أستاذنا الراحل الدكتور علي عيسي  قد صدمنا حين قال عبارة مؤداها أن رجل العلم الحق هو ذلك الذي يوقن أن ما يجهله أكثر مما يعرفه, وأن ذلك الذي يجهله قابل للمعرفة العلمية, وأنه كلما ازداد المرء علما ازداد وعيا بجهله وازداد يقينا بضرورة وإمكانية فض تلك المجهلة.
ورسخ لدي الدرس حين قرأت في أسس المنهج العلمي, وتاريخ تطور العلوم, لأكتشف أن أولي سمات رجل العلم هي التعرف علي مناطق جهله, وأن المرء يظل عالما ما طلب العلم, فإذا ظن أن علمه اكتمل فقد جهل, وأن أولي خطوات البحث العلمي الصحيح بلورة سؤال لا نعرف الإجابة عليه.
وتذكرت أيضا أن أستاذنا الراحل الأستاذ الدكتور لويس كامل مليكة قد نبهنا في دروسه عن أنماط القادة وأساليب القيادة إلي نمط عفي عليه الزمن رغم ما يميزه من بريق, إنه نمط القائد الملهم الذي لا يعتمد في اتخاذه قراراته إلا علي بصيرته الثاقبة, وذكائه الفذ و معرفته الشاملة و قدراته غير المحدودة, وكيف أن ذلك النمط قد ارتبط تاريخيا بأسلوب القيادة الدكتاتورية.
لقد تغير العالم وتشابكت مشاكله ولم يعد في مقدور قائد كائنا ما كانت عبقريته أن يزعم أنه قد أحاط بكل شيء علما; بل إن العبقرية الفردية لم تعد العلامة المميزة لمن يحصلون علي جوائز نوبل في الفيزياء مثلا, ويكفي المقارنة بين فريق الباحثين الذين أشاد زويل بمساهمتهم في تحقيق إنجازه العلمي, واينشتين الذي حصل علي نفس الجائزة نتيجة جهد فردي, وإن كان البعض قد أصبحوا يشككون في مدي فردية هذا الجهد.
ولقد عرف التاريخ صورة مناظرة لصورة القائد الملهم تمثلت في ظاهرة الجماعة الملهمة أو النخبة القائدة, جماعة أوتيت من العلم والحكمة ما لا يمكن أن يتوافر لغيرها; وهي تنفرد بمعرفة ما هو صالح للناس وما هو ضار بهم, ومن ثم فلها القيادة وللآخرين الانصياع, ومع انهيار الخلافة العثمانية وانهيار الاتحاد السوفييتي وتوالي سقوط نظم شمولية, سقط ذلك الوهم عمليا, ولكن بقيت تلك الصورة البالية تتمسك بالحياة حيث الجهل والتخلف و الدكتاتورية, ولقد شهدنا في تاريخنا الحديث كيف أن الزعيم لجأ يوما إلي اثنين من كبار مستشاريه ممن لا تنقصهم الحكمة ولا العلم ولا الذكاء ليطلب مشورتهم في أمر عاجل فإذا بهم بعد فترة يقولان له ما معناه إن بصيرة القائد تكون أحيانا أصدق من مشورة الخبراء. إن قادة العالم المتحضر يتفاخرون و لو حتي علي سبيل الادعاء باعتمادهم علي فرق تضم العديد من المستشارين ذوي الخبرة, لقد اختفت عبارة قصص ألف ليلة الشهيرة, حيث كان الملك يسأل وزيره التدبير فيرد الوزير مطأطئا رأسه التدابير لك يا مولاي ليحل محلها علي أهل الاختصاص تزويد السلطة بالبدائل لتتخذ قراراتها علي بينة.
ولذلك ينبغي أن ينتابنا الفزع حين نشهد الاستعاضة عن الأسلوب العلمي في طلب مشورة أهل الاختصاص بالاستماع إلي من يبدون الرأي دون تخصص أو حتي علم بدقائق الموضوع المطروح, لقد شهدنا من المتخصصين في الهندسة أو القانون أو الشريعة أو السياسة علي سبيل المثال من يبدون الرأي ويقدمون المشورة علنا في الأمور العسكرية والأمنية والاقتصادية بل تلك المتعلقة بعلوم الزراعة والموارد المائية فضلا عن فنيات إدارة الحرب النفسية وعلم إدارة الأزمات.
إن أحدا لا ينكر علي أحد الحق في إبداء ما شاء من آراء; وإلا عدنا إلي منزلق الاحتكار النخبوي للفكر وللقيادة, ولكن إبداء الرأي علي إطلاقه يختلف عن المشورة المتخصصة بشأن إدارة أزمة تتعلق بموضوع محدد, ويضيق المقام عن تفاصيل علم إدارة الأزمات وتطبيقاته العملية, وهو ما لا أظنه غائبا عن مؤسسات الدولة المصرية العتيدة.
إن مؤسسات توليد الأفكار, قد أصبحت تتجاوز الآلاف في عالم اليوم, ومجال عملها الأساسي والوحيد هو صناعة الأفكار وصياغة البدائل, وهي صناعة بكل ما تعنيه الكلمة, وقد تتعدد مسميات تلك المؤسسات بين مراكز البحوث الإستراتيجية, أو بنوك التفكير, أو مراكز دراسات الرأي العام, أو مراكز البحوث المستقبلية, ولكنها تبقي في النهاية من أبرز الأشكال المعاصرة للصناعات الأساسية الثقيلة: صناعة الأفكار.
ولكن تلك الصناعة تكاد تحتل ذيل قائمة الاهتمامات في بلادنا, سواء من حيث ندرة مؤسساتها, أو من حيث انكماش سوقها بمعني قلة الطلب عليها, حيث مازلنا فيما يبدو أسري مقولة أن التفكير عملية تلقائية ذاتية, وأن اتخاذ القرارات لا يحتاج للاعتماد علي مثل تلك الصناعة, وأنه يكفي القائد عند الضرورة أن يوجه دعوة مفتوحة لأهل الفكر, والسياسي للتداول العام في الموضوع.
ويظل التساؤل قائما: تري هل يمكن أن تشهد بلادنا طلبا حقيقيا علي منتجات هذا النوع من التفكير الجماعي العلمي؟ وهل آن الأوان لمراكز البحث العلمي في بلادنا أن تنطلق في هذا الاتجاه؟

منابع النيل‏..‏ والثقافة لا ينفصلان

منابع النيل‏..‏ والثقافة لا ينفصلان



منابع النيل‏..‏ والثقافة لا ينفصلان
النقطة الأولي التي أود الحديث فيها هي أنه لا جديد في أن الدولة العبرية أدارت الصراع مع مصر بطريقة شاملة‏,‏ لم يظهر فيها أي تراخ‏, حتي بعد معاهدة كامب ديفيد, وبعد التغيرات الجذرية في الواقع السياسي والاقتصادي المصري بالاتجاه غربا ورأسماليا, وبعد ظهور قطاعات من الرأي العام المصري, خاصة لدي النخب السياسية والفكرية تؤيد التطبيع.
ولم تتردد الدولة العبرية في أن تتحرك في الدوائر نفسها, التي اعتبرتها مصر منذ فلسفة الثورة مطلع الخمسينيات مجالا لحركتها وتحقيق دورها, وها نحن نري الدور والنفوذ الصهيوني في الدائرة العربية, قطر مثالا, وفي الدائرة الإفريقية منابع النيل مثالا, وفي الدائرة الإسلامية ودائرة عدم الانحياز والتحرر الوطني الهند والصين وتركيا وغيرها أمثلة! والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف تستطيع مصر برئاسة مرسي, وهيمنة جماعة الإخوان المسلمين أن تعالج الأمر ابتداء بمواجهة التفتت الديني والمذهبي والطائفي والسياسي والاجتماعي داخل الوطن, وهو تفتت طالما راهن العدو الصهيوني علي إحداثه, ولخصه أحد كبار قادتهم قبل رحيل حسني مبارك, عندما قال ذلك الصهيوني: لقد كانت مصر ملعبا مفتوحا بالنسبة لنا, وخاصة علي الصعيد الطائفي وفعلنا ما نشاء, ولن يستطيع أي رئيس مصري قادم بعد مبارك أن يعيد مصر إلي ما كانت عليه, وكان ذلك التصريح مقترنا بتصريح الوزير بن إليعازر, الذي قال هو الآخر: إن الرئيس مبارك كان كنزا استراتيجيا لإسرائيل! ثم كيف تستطيع مصر الآن أن تواجه ما فعلته الدولة العبرية في الدوائر الخارجية التي أشرت إليها؟!
إن إدارة الرئيس مرسي ومعها السلطة العليا التي توجهها ـ أي مكتب الإرشاد ـ لم يفصحا عن أي تصور استراتيجي لإدارة الصراع مع الدولة العبرية, خاصة أن تلك الأخيرة لا تتردد في أن تؤكد علنا أو ضمنا بالقول وبالفعل أن لديها حزمة واحدة شاملة هي حل المسألة الفلسطينية وفق الشروط الصهيونية, ثم مسألة المياه في المنطقة, بما في ذلك خروج مياه النيل خارج دول الحوض, ثم مسألة الشرق الأوسط الجديد الذي ينهي حكاية المنظومة العربية وكل ما له علاقة بنظام عربي ذي سمات قومية أو تحررية أو حتي إسلامية.
لقد شغلونا بمثل ما انشغلت به بيزنطة في العصور الوسطي, وحتي الآن مازال الصراع في مصر يدور من حول الشريعة ومبادئها وأدلتها, وما هو كلي وما هو فرعي, ويدور من حول التمكين والأخونة إلي آخر هذا العبث الذي أنهك الوطن, مثلما أنهكت بيزنطة بالجدل حول طبيعة السيد المسيح, وأظن أنه قد آن الأوان لكي يفصح الرئيس وإدارته ومكتب الإرشاد عن استراتيجية الحكم, ليس فقط بالنسبة لإدارة الصراع مع الدولة العبرية, ولكن بالنسبة للدور المصري في المنطقة وفي العالم, ولن ينتقص من قدرهم شيئا إذا أعلنوا أنهم يتخذون من رصيد مصر الناصرية مرتكزا أو أنهم ليس لديهم أي تصور, وأن الأصل عندهم كما قال كبيرهم مهدي عاكف هو أن مصر لا تهمهم أي بالبلدي مثلما صكها هو طظ في مصر!
النقطة الثانية التي أود التطرق إليها هي ما اصطلح علي تسميته بالقوة الناعمة لمصر, أي إنجازاتها الثقافية, بالمعني الشامل للثقافة, وكذلك قدراتها العلمية, وهي قوة تتعرض الآن لمزيد من الصدوع والفوالق, التي لم تبدأ في هذه المرحلة وإنما ارتبطت بالنصف الثاني من عقد السبعينيات حيث ساد منطق انفتاح السداح مداح, وتحولت كل قيمة عليا محترمة إلي سلعة تجارية, وليتها كانت تجارة لائقة ولكنها كانت بأسلوب الشنطة والشروة.. وفي جيبك كم.. تساوي إيه؟!.
الآن وبعيدا عن تعليق الأمور علي شماعة مؤامرة التمكين الإخواني, فإن الأسلوب الذي يعتمده بعض وزراء الحكم الإخواني في نسف ما هو قائم, خاصة في مجال الثقافة والإعلام حتي يتم بناء الجديد علي نظافة, هو أسلوب انتحاري أقرب إلي ذلك الذي يلف نفسه بحزام ناسف ويفجر الهدف ولا بأس من تفجير جسده.. مع فارق أساسي أن الوزراء الانتحاريين لا يدركون أن صروح الثقافة المصرية هي أشجار ضاربة بجذورها في عمق الوجدان الوطني, وأنه يمكن نسف أعضائها وأجزاء من جذوعها, ولكن لا يمكن نسف الجذور الممتدة في الجغرافيا والتاريخ إلي أعماق سحيقة. كان من المتصور منطقيا أن يأتي الوزير الجديد ويعلن عن خططه, وعن سبل تحقيقها ومداها الزمني, ثم يجلس إلي معاونيه الموجودين في كل الهيئات, ويعرف مدي استعداد كل منهم للعمل وفق هذه الخطط, ومن يرفض أو يراوغ أو ينافق فالوسائل لإقصائه معروفة! إننا إذا نظرنا إلي السعي المحموم للاتجاه السلفي, لكي يتم استئصال أهم منبع للثقافة الشعبية وللإبداع المصري, وهو الموالد والاحتفالات الدينية والإسلامية وأيضا المسيحية, ثم سعيهم كذلك إلي محو البصمة الإبداعية المصرية في تلاوة القرآن الكريم, وفي الإنشاد الديني, واتجاههم إلي إنهاء وجود ما يرون أنه فسق وخروج علي الدين, مثل الباليه والرقص الشعبي, وربما أيضا المسرح والمسلسلات والسينما إذا لم نتقيد بما يفرضونه, وربطنا ذلك بما يقوم به وزراء حكومة الإخوان لأدركنا حجم وعمق الخطر, الذي يتهدد القوة الناعمة المصرية, ناهيك عن الحال المتردية التي تمسك بخناق المؤسسات العلمية المصرية, مثل مراكز البحوث والجامعات, والتي وصل الأمر في بعضها إلي رفض تنفيذ أحكام قضائية نهائية جامعة النيل ومؤسسة زويل, واستخدام البلطجية والعنف المسلح تجاه الآخر الذي يحوز الحكم القضائي.. أرأيتم هول ما نحن فيه؟!
النقطة الثالثة والأخيرة, هي حتمية الربط بين ما تفعله الدولة العبرية, كما وضحت في النقطة الأولي, وبين حال قوتنا الناعمة ليصبح السؤال الأكثر خطورة هو: هل يمكن لمجتمع يتم تفتيته وتفكيكه ونسف جوانب قوته الحضارية والثقافية أن يدخل في صراعات طويلة المدي, وأن يحمي مقدرات وجوده وعلي رأسها مياه النيل؟ وهل سيتحمل الإخوان وحلفاؤهم المسئولية التاريخية وحدهم أم أننا جميعا شركاء في هذه المسئولية؟
نعم.. نحن جميعا شركاء لسببين, الأول: هو أننا نري حجم الخطر ومعه حجم الخطأ في إدارة الحكم, ولم نسع للتغيير وفق الأصول التي سعينا لإقرارها بعد ثورة يناير, والثاني: لأننا لا نبادر بإنشاء مؤسسات شعبية تسعي لإنقاذ قوتنا الناعمة وبالمبادرة لإيجاد أنشطة فنية مسرحية وسينمائية وفلكلورية ترعاها جمعيات أهلية ونشق طريقا جديدا, وعندها لن يجد الوزراء الانتحاريون إياهم إلا تقشير البصل وتقطيف الملوخية عملا ينشغلون به

انقلاب القيم بعد الثورة‏!‏

انقلاب القيم بعد الثورة‏!‏



انقلاب القيم بعد الثورة‏!‏
أقتبس عنوان هذا المقال من البحث الذي ألقيته في الملتقي الفكري الأول  الذي عقدته المجلة المصرية للتنمية والتخطيط التي يصدرها معهد التخطيط القومي, وذلك يومي29-30 أبريل.2013 كان عنوان الملتقي الذي أشرف علي إعداده الدكتور خضر أبو قوره أستاذ علم الاجتماع هو مأزق التنمية في الواقع المجتمعي المعاصر: أنساق القيم نموذجا.
واخترت عنوانا فرعيا لموضوع انقلاب القيم بعد الثورة يلخص في عبارة مفردة الأطروحة الرئيسية في البحث, وهي من الانصياع الكامل إلي التمرد المطلق.
وقد صغت هذه العبارة بعد تأمل عميق للأحوال السياسية والاجتماعية والثقافية قبل الثورة وبعدها.
أما ما قبل الثورة فقد رصدت فيه حالة الانصياع الكامل من قبل النخبة والجماهير للحكم السلطوي الغاشم للرئيس السابق, أو بعبارة أخري الاستسلام للسياسات المنحرفة التي انتهجها النظام, ولم يبدأ التمرد النسبي عليه إلا في السنوات العشر الأخيرة من حكمه الثلاثيني, حين ظهرت حركة كفاية وغيرها من الحركات الاحتجاجية.
وقد آثرت في بحثي الذي ألقيته في معهد التخطيط القومي وبعد تأمل طويل في ظاهرة انقلاب القيم التي تجلت في المظاهرات المليونية والاحتجاجات الفئوية, أن أعالج الموضوع أولا من خلال الإشارة الموجزة لصعود وسقوط النماذج المعرفية العالمية, وبزوغ ما أطلقت عليه الثورة الكونية بأبعادها الأربعة,
وهي الثورة السياسية, ونعني الانتقال من الشمولية والسلطوية إلي الديمقراطية والليبرالية, مع رصد ظاهرة سقوط فكرة الزعامة السياسية وتشكيل أحزاب سياسية جديدة مثل حزب الخضر في ألمانيا في الستينيات, لا تؤمن بالقيادات السياسية التي تتربع علي عرش قيادات الأحزاب إلي الأبد, وإنما علي العكس- تؤمن بالقيادة الجماعية التي تتغير كل عامين علي الأكثر, وهذا ما طبقته بالفعل حركة كفاية قبل الثورة حيث نصت لائحتها علي أن يتغير المنسق العام لها كل عامين.وهذا هو تفسير لماذا كانت ثورة25 يناير بلا قيادة وذلك لأنه تم الحشد الالكتروني لها إن صح التعبير- علي شبكة الإنترنت التي ينص قانونها الأخلاقي غير المكتوب علي أنه لا رئيس ولا مرءوس في الشبكة, وإنما يتم التفاعل بين أفراد متساوين.
والبعد الثاني من أبعاد الثورة الكونية هو الثورة القيمية, التي تعني الانتقال من القيم المادية إلي القيم ما بعد المادية. أي التحول من التركيز علي إشباع الحاجات الأساسية للإنسان إلي إشباع الحاجات المعنوية, كالدفاع عن الكرامة الإنسانية والاهتمام بإشباع الحاجات الروحية, وهذا يفسر النزوع إلي التدين في مجتمعات شتي تنتمي إلي ثقافات متعددة, وفي رحاب الأديان السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام.وهذا يفسر أحد أسباب ثورة25 يناير والتي كان من بين الوقود الثوري الذي أشعلها موقع كلنا خالد سعيد علي شبكة الإنترنت, والذي أداره سرا وائل غنيم أحد قيادات ثورة25 يناير للاحتجاج علي التعذيب الذي لقيه خالد سعيد علي يد الشرطة في الإسكندرية ووفاته نتيجة لذلك, وتحوله إلي أيقونة من أيقونات الثورة المصرية تماما مثل بوعزيزي الشاب الجامعي التونسي الذي أحرق نفسه بعدما أحس أن الشرطة قد جرحته في كرامته.
والثورة الثالثة هي الثورة المعرفية والتي تعني الانتقال من عصر الحداثة التي قامت علي أساس بروز الفرد بحقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعقلانية, والاعتماد علي العلم والتكنولوجيا, وتبني نظرة خطيةLinear للتاريخ الإنساني تذهب إلي أنه سيتقدم من مرحلة إلي أخري.
وتم الانتقال إلي عصر ما بعد الحداثة الذي تعبر عنه تماما ظاهرة العولمة بأبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية, والتي تسعي إلي تذويب الحدود بين الدول وإطلاق سراح الاقتصاد والذي يعبر عنها التعريف الإجرائي الذي صغته لها وهي أن العولمة هي سرعة تدفق المعلومات والأفكار ورؤوس الأموال والسلع والبشر من بلد إلي بلد بدون قيود ولا حدود.
والثورة الرابعة هي الثورة الاتصالية, وأبرز تجلياتها البث التليفزيوني الفضائي وظهور شبكة الإنترنت باعتبارها فضاء عاما جديدا يتاح فيها لمواطني العالم إن صح التعبير- أن يتفاعلوا مباشرة بغير حدود ولا قيود.
وهي تعبر عن حركة الانتقال العظمي من المجتمع الواقعي إلي العالم الافتراضيCyberSpace. والأهمية القصوي لهذه الثورة الاتصالية أنها لعبت الدور الحاسم في ثورات الربيع العربي وقد تم الحشد الالكتروني لثورة25 يناير علي شبكة الإنترنت, حيث حدد موعد النزول إلي ميدان التحرير باليوم والساعة, وتم تبادل الرسائل الالكترونية من النشطاء السياسيين الذي أشرفوا علي التخطيط وقاموا بالتنفيذ باستخدام أسماء مستعارة.قامت الثورة أولا في تونس ولحقتها بعد أسابيع قليلة الثورة في مصر. وقد أدي اندلاع الثورة التونسية في تونس إلي سقوط النظام الاستبدادي وهروب الرئيس بن علي إلي الخارج خوفا من المصير الحتمي الذي كان سيلاقيه, وهو نفس ما حدث في مصر بعد سقوط النظام وإعلان الرئيس السابق مبارك تنحيه وتوجهه اختياريا إلي شرم الشيخ باعتبارها منفي اختياريا له, قبل أن يقدم إلي المحاكمة الجنائية الشهيرة.
ويبقي السؤال الرئيسي الذي طرحناه في محاضرة معهد التخطيط القومي.
ما هي طبيعة الانقلاب الذي حدث في القيم بعد الثورة, وكيف انتقلت النخب والجماهير من الانصياع الكامل إلي التمرد المطلق!
يمكن القول للإجابة عن هذا السؤال الاستراتيجي إن وقوع النظام الاستبدادي في مصر في أيام قليلة أعطي الجماهير ثقة مطلقة في قدراتها الكامنة علي التغيير الراديكالي للنظام السياسي, والدليل علي ذلك النجاحات المتوالية لها في تحقيق أهدافها بعدما ارتفع في ميدان التحرير الشعار الشهير الذي أصبح من بعد أيقونة الثورة من بعد, وهو الشعب يريد إسقاط النظام إلي أن سقط النظام بالفعل أمام أعين الجماهير مباشرة وفي العالم الواقعي.
سقط النظام ودخلنا في نفق المرحلة الانتقالية, حيث تشرذمت القوي الثورية إلي أن وصلنا إلي الانقسام السياسي الراهن بين الجبهة الدينية ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين التي استطاعت أن تقفز علي قطار الثورة المندفع وتهيمن علي السلطة كاملة بمفردها, والجبهة الثورية والليبرالية التي تعارض سياسات أخونة الدولة وأسلمة المجتمع. وفي غمار المصادمات الدامية بين الجماهير والأمن من ناحية, وبين أنصار الجبهات المتصارعة سقط شعار السلمية, وأصبح العنف هو سيد الموقف, واختلطت الثورة بالفوضي, وغلبت الانتهازية السياسية علي سلوك النخب السياسية من كل الفصائل, وأصبح المواطنون العاديون يميلون إلي البلطجية في صورتها السياسية ويمارسونها بصور شتي تحت لافتات الثورة المغدورة.

رحلة البحث عن القيم الضائعة‏!‏

رحلة البحث عن القيم الضائعة‏!‏

رحلة البحث عن القيم الضائعة‏!‏
غامرت في مقالاتي الأربعة الأخيرة بالإبحار في محيط القيم الزاخر بالعواصف النظرية والمشكلات العملية‏.‏ وقد حاولت في أحد هذه المقالات القيم بين الدولة والنظام والمجتمع أن أصوغ إطارا نظريا ينطوي علي التمييز بين ثلاثة مستويات‏.‏
المستوي الأول هو الدولة من ناحية القيم التي تصدر عنها. ومن المعروف أنه تاريخيا كانت هناك دول استعمارية لم تجد حرجا في استعمار دول أخري من العالم الثالث, بل اخترعت نظرية خاصة للتبرير الأخلاقي لهذا الاستعمار هي نظرية عبء الرجل الأبيض, أي المسئولية التاريخية الملقاة علي عاتق المستعمر الأبيض( الغربي) لكي يقوم بتمدين الشعوب البدائية, وذلك هروبا من الاعتراف بأن استعمار الشعوب مضاد للقيم المعلنة التي ترفعها هذه الدول ذاتها, وهي الحرية والإخاء والمساواة.
أما في مرحلة ما بعد الاستعمار فنحن نستطيع التفرقة بين دول تقليدية ودول تحديثية. ونقصد بذلك أنه في إطار العالم الثالث هناك دول أصرت نخبها السياسية الحاكمة علي أن تبقيها في إطار التقاليد الحاكمة القديمة الموروثة من الدول التي قامت علي أساس العصبية( لو استخدمنا مصطلح ابن خلدون الشهير) ودول تحديثية أدركت نخبها السياسية الحاكمة ضرورة الخروج من شرنقة التقاليد القديمة إلي رحاب التقاليد الحديثة للدول العصرية, عن طريق اتباع استراتيجيات التحديثModernization من توسيع إطار التعليم الأساسي والعالي إلي تحديث الاقتصاد وتبني القيم الاجتماعية العصرية, التي هي أعمدة نظرية الحداثة الغربية التقليدية, ونعني الفردية والعقلانية والاعتماد علي العلم والتكنولوجيا.
أما المستوي الثاني في إطارنا النظري- الذي لم يتح لنا لضيق المساحة التفصيل فيه- فهو يتعلق بطبيعة النظم السياسية المطبقة, التي قسمناها إلي نظم شمولية وسلطوية وليبرالية.
النظام الشمولي يقوم علي ممارسات فاسدة تؤدي إلي تشوه القيم الإنسانية, لأنه ينهض علي أساس القهر السياسي المعمم, ويمحو مؤسسات المجتمع المدني تماما. وتنفرد فيه النخبة السياسية المستبدة الحاكمة باتخاذ القرار, وتستولي علي السلطة والنفوذ والثروة, وتمارس القمع السياسي العنيف, فترسخ قيم الخوف من السلطة, والخنوع لأولي الأمر, وتستنكر قيم التمرد, وتقضي علي مبررات ثورة الجماهير المشروعة للمطالبة بالحقوق.
أما النظام السلطوي فهو لا يمارس القمع السياسي بشكل مباشر كالنظام الشمولي, لكنه يمارسه خفية وبأسلوب غير مباشر, بل قد يغطيه بأساليب قانونية فاسدة وتشريعات منحرفة, وهو يترك هامشا ضئيلا من الحرية الاجتماعية حتي يضفي الشرعية الشكلية علي ممارساته الاستبدادية أمام العالم الخارجي. ويبقي النظام السياسي الليبرالي الذي هو علي مستوي النظرية- أفضل هذه النظم السياسية المختلفة, لأنه ينهض علي أساس حرية التفكير وحرية التعبير والتعددية السياسية والحزبية وتداول السلطة وسيادة القانون.
وقد ترد قيود شتي في التطبيق علي المنطلقات النظرية للنموذج الليبرالي غير أنه بالقطع أفضل من كل من النموذج الشمولي والسلطوي.
ومصر الآن بعد ثورة25 يناير في قلب المعركة الكبري المتعلقة بالانتقال من النظام السلطوي السابق إلي النظام الديموقراطي الليبرالي المرتجي.
وتحول دون تمام هذه العملية- التي هي الخطوة الأولي للانطلاق في مجال النهضة الحضارية الحقيقية- ظاهرة الاستحواذ المطلق علي السلطة من قبل النخبة السياسية الإخوانية الحاكمة, وتسخير التشريعات المختلفة والدستور نفسه للهيمنة المطلقة علي مجمل الفضاء السياسي, والاستبعاد المطلق للمعارضة من دائرة اتخاذ القرار ومن مجال التشاور السياسي الضروري في أي نظام ديموقراطي, وخصوصا فيما يتعلق بسياسات الأمن القومي, والتشريعات الكبري التي تتعلق بأمن ومصالح الجماهير العريضة. غير أنه تبقي أهم المستويات قاطبة في إطارنا النظري المقترح وهو طبيعة المجتمع الذي نبحث عن إرساء القيم الإيجابية في تربته علي حساب القيم السلبية التي أدت إلي تدهور القيم بشكل عام, مما دفع بنا إلي البحث عن الوسائل المختلفة لإحيائها, بل لإعادة صياغتها لتكون قادرة علي صياغة المستقبل.
ونعني بطبيعة المجتمع هل هو مجتمع تقليدي يتشبث بالماضي ويقاوم تيارات العصرية المتجددة والتي تتمثل في تغير نماذج المجتمع العالمي, وأهمها الانتقال من قيم المجتمع الزراعي إلي قيم المجتمع الصناعي, وأخيرا إلي قيم مجتمع المعلومات العالمي؟
أم أنه مجتمع قادر علي التكيف مع تيارات التجديد العالمية؟ وهل هو مجتمع تسوده الآراء والتيارات الدينية المتشددة التي تسعي بكل طريقة إلي أن يكون الماضي هو المرجعية الأساسية في القيم والسلوك في الحاضر, بحيث يحكم الموتي من الأجيال الماضية من فقهاء ومفسرون ومفكري الحاضر, أم هو مجتمع يحرص علي احترام التقاليد ولكنه لا يقف مقاوما بعناد تاريخي كل صور التقدم بحجة أنه تقدم غربي مبتدع لا يتفق مع تراثنا وعاداتنا؟
غير أن هذا الإطار الواسع, الذي يحتاج في الواقع للتفصيل في مفرداته المتعددة يحتاج إلي مساحات لا تسعها المقالات الصحفية المحددة.
ولذلك نشرت تعليقات بعض قرائي الكرام علي شبكة الإنترنت يبدون فيها عدم رضائهم عن عدم تعمقي في بحث القيم, بل إن بعضهم دعاني صراحة إلي الدخول في الموضوع, وأن أتجاوز المقدمات التي سقتها لمناقشة الموضوع.
واحتراما مني لهذه الملاحظات النقدية الصائبة قررت تغيير استراتيجيتي في الكتابة, والاستعانة ببعض المراجع الأكاديمية الأصيلة التي أقدر إسهامها في موضوع دراسة المجتمع العربي تقديرا عاليا. وفي مقدمتها الكتاب الموسوعي للصديق الدكتور حليم بركات وهو عالم اجتماع مرموق ومؤلف روائي مبدع في الوقت نفسه. والكتاب عنوانه المجتمع العربي في القرن العشرين: بحث في تغير الأحوال والعلاقات, وقد نشره في صورته الأخيرة المعدلة( مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام2000).
وقد لفت نظري حين أعدت قراءة الكتاب لكي أحل مشكلة التحليل المنهجي لأزمة القيم أن حليم بركات في أحد الفصول المهمة يتحدث عن الاتجاهات القيمية الأساسية في المجتمع العربي. وقد أجملها في تسع قيم تستحق المناقشة النقدية. وهي قيم القضاء والقدر وقيم الاختيار الحر, والصراع بين القيم السلفية والقيم المستقبلية, وقيم الاتباع وقيم الإبداع, وقيم العقل و قيم القلب, وقيم المضمون وقيم الشكل, وقيم الامتثال وقيم التفرد, وقيم الشعور بالعار والشعور بالذنب, وقيم الانفتاح علي الآخر وقيم الانغلاق علي الذات, وقيم احترام السلطة وقيم التمرد عليها.
وهكذا في ضوء هذا الحصر الشامل قررت- بلغة المسابقات التليفزيونية- الاستعانة بصديق هو الدكتور حليم بركات الذي شاركته عديدا من المرات في جامعة جورج تاون الأمريكية في ندوات ولقاءات وكان معنا الصديق الراحل الدكتور هشام شرابي. ويعني ذلك أن مقالاتي المقبلة ستكون في وصفها الدقيق تهميشا علي متن حليم بركات.!

مشاركة مميزة

مدونة نهضة مصر