الأربعاء، يونيو 1

قضايا واراء - الديمقراطية كثقافة

شاءت الظروف أن أحضر‏,‏ منذ‏25‏ يناير‏(‏ يوم نشوب الثورة‏),‏ مرورا بأيام الثورة نفسها‏,‏ ثم المرحلة التالية لها حتي اليوم‏,‏ العديد من الاجتماعات واللقاءات‏,‏ سواء علي مستوي النخبة أو الجماهير‏,‏ وفي مناسبات وأماكن شديدة التباين; بدءا من أزقة وحوار شعبية في العاصمة والأقاليم, إلي القاعات الفارهة في مركز القاهرة للمؤتمرات. وفي أكثر من مرة, كنت أقوم بمهمة رئاسة أو إدارة الجلسة أو الاجتماع, وهي مهمة مارستها كثيرا بحكم ظروف عملي ونشاطي العام- وأعتقد أنني تعودت عليها, واكتسبت فيها بعض الخبرة.وفي جميع تلك الحالات والظروف المتباينة, كانت تثير انتباهي قضية: كيف يجري الحوار بين المشاركين فيه, والمتابعين له؟ إنها- في الواقع- مسألة وتجربة توحي بالكثير من الدلالات والانطباعات والدروس.إن الحقيقة الأولية, التي أعتقد أنه ينبغي أن ننطلق منها, هي أن الثورة المصرية قد أحدثت انفجارا هائلا في طاقات وتطلعات الشعب المصري, لكي يمارس الديمقراطية فعليا لأول مرة منذ عقود طويلة, بلا مخاوف ولا حواجز, لا من رجال الدولة, ولا أمن الدولة, ولا حزب الدولة, الذي لم يعد موجودا من الأساس.ولأن الموضوع متشعب, وله أبعاد ومستويات كثيرة, فسوف أقصر حديثي هنا علي نقطة محددة من الثقافة والممارسة الديمقراطية, أي: ثقافة الحوار والنقاش.ولربما يذكرنا هذا الموضوع ابتداء- بالتصريح الذي أدلي به اللواء عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية السابق- لمحطة آي. بي. سي الأمريكية, في غمار أحداث ثورة يناير, والذي قال فيه مبررا استمرار العمل بقانون الطوارئ- إن الشعب المصري لا يملك ثقافة الديمقراطية!, وهو التصريح الذي سارع بانتقاده جو بايدن, نائب الرئيس الأمريكي, واعتبره غير مفيد, وذكر في حينها أن بايدن اتصل بنظيره المصري, وقال له إن مطالب المعارضة المصرية يمكن أن تلبي عن طريق مفاوضات جادة مع الحكومة المصرية! ويبدو أن الرجل كان يأمل في إنقاذ نظام مبارك الصديق, غير مدرك أن نصيحته جاءت متأخرة جدا, وبعد فوات الأوان.إن ما فات السيد عمر سليمان, ببساطة شديدة, هو أنه إذا كان الشعب المصري يفتقد ثقافة الديمقراطية, فذلك لم يحدث بحكم تكوينة الطبيعي, ولا بحكم جينات خاصة فيه, ولكن لأنه ببساطة وتحت الحكم الذي كان هو أحد أركانه- لم تتح له أية فرصة حقيقية طوال عقود طويلة, لتمثل واستيعاب تلك الثقافة, وممارساتها المتنوعة. إن الديمقراطية شأنها شأن النظم والمذاهب السياسية كافة- ممارسة وثقافة, قبل أن تكون نظاما ومؤسسات! وذلك هو بالتحديد ما افتقده الشعب المصري أحيانا, وهو يندفع بشوق, وبعد طول كبت وحرمان, لممارسته واستنشاق نسيم الحرية الرائع.إن ثقافة الديمقراطية تعني أولا النظر إلي الاختلاف والتنوع في الآراء والمصالح علي أنه أمر طبيعي, وأنه الأصل في الأشياء, وأن هدف أي مجتمع ناضج ليس إلغاء هذا الاختلاف والتنوع, وإنما تنظيمه والتعايش معه وبه, وليس السعي إلي القضاء عليه, باعتباره أمرا استثنائيا, بل ربما موحي به من الخارج, أو أن قوي مندسة بثته. ولنأخذ علي سبيل المثال- القضية المثارة حاليا حول إجراء الانتخابات البرلمانية القادمة, هل نسرع بها, وفق ما تم الاستفتاء عليه, أم نؤجلها قليلا؟ إنه من المنطقي والطبيعي أن يدافع مثلا الإخوان المسلمون عن التبكير بالانتخابات! صحيح أنهم يقولون إنهم يتخذون ذلك الموقف احتراما لإرادة الشعب التي عبر عنها في الاستفتاء, ولكن من الصحيح أيضا أنهم يتخذونه, لأن مصلحتهم ومنفعتهم الآنية تتطلب ذلك! لأنهم شأنهم شأن الحزب الوطني- جاهزون بمرشحيهم! وفي المقابل, تنادي القوي الأخري بتأجيل الانتخابات, لأن مصلحتها ومنفعتها تتطلب ذلك, ولأن أحزابها الجديدة ولدت بعد الثورة, ولذا فهي تطلب الانتظار بعض الوقت, حتي تهيئ نفسها, وتختار مرشحيها بعناية. فإذا قيل لهم إن ذلك لا يتفق مع نتائج الاستفتاء, فإن بإمكانهم القول إنه إذا أراد الشعب تأخير موعد الانتخابات, فإن إرادته تعلو بداهة- فوق أي نصوص سبق أن وضعها الشعب نفسه, وتجاوزتها الظروف المتغيرة بسرعة.. وهكذا.وثقافة الحوار تعني ثانيا- إتقان فن وآليات الحوار. وكما سبق أن أشرت, فقد حضرت بعد الثورة العديد من المؤتمرات والندوات, وكنت في العديد منها متحدثا أو رئيسا لجلسة. وفي أغلبها, كان يتكرر المشهد نفسه: تجري الجلسة في البداية في سهولة ويسر, حيث يتخذ الحاضرون أماكنهم بمزيد من الاهتمام بالمشاركة, والالتزام بالجلوس في مقاعدهم مبكرين, ويسود الهدوء في المكان انتظارا لبدء الجلسة التي عادة ما يكون فيها رئيس, ومتحدث أو مجموعة من المتحدثين, ومقرر للمؤتمر أو الجلسة. وتبدأ وقائع الجلسات وغالبا ما تجري في موعدها تقريبا- وإن تأخرت فلا تتأخر كثيرا( وإن كانت كل جلسة تأخذ في الاقتطاع من وقت التالية لها إلي أن يصير التغيير كبيرا في آخر الجلسات). يفتتح رئيس الجلسة المؤتمر أو الندوة, قبل أن يقوم بتقديم المتحدث أو المتحدثين في الجلسة, في حين تبدأ طلبات الأسئلة أو التعليقات في الوصول إلي المنصة تباعا( أو قد تطلب الكلمات برفع الأيدي... إلخ). كل هذا كان يجري في سلامة ويسر وهدوء, إلي أن تبدأ مشاركات القاعة, سواء بالأسئلة أو التعليقات. وفجأة وقد تكرر هذا في الغالبية العظمي من الحالات- يحدث شيء ما( استثنائي!!) مثل أن يقف أحد الحاضرين زاعقا معلقا أو معترضا, أو يندفع آخر تاركا مكانه ومتجها إلي المنصة ليخاطبها عن قرب! وقد يمر مثل هذا الموقف بهدوء مرة أو مرتين, ولكن تكراره ينبئ بما هو أسوأ! وفي أغلب الحالات, يثير ذلك الموقف حفيظة بعض الحاضرين الذين يبدأون بدورهم- في ترك مقاعدهم, والاتجاه إلي المنصة أو إلي الشخص الذي بادر بالقيام أو الخروج, سواء لردعه أو للتضامن معه! وتكون تلك هي المقدمة لحالة من الهرج والمرج تتزايد, ثم لا تلبث أن تسود القاعة كلها, قبل أن يسارع رئيس الجلسة أو مقررها ليعلن إنهاءها قبل موعدها.ولا أعتقد أن مثالب تلك الصورة لحالات حوار في قاعات المؤتمرات والندوات تختلف في جوهرها عن حوارات أخري تجري علي صفحات الصحف أو علي شاشات التليفزيون, أو في المناقشات الضيقة في البيوت والمنتديات.. إلخ.وثقافة الحوار تعني ثالثا- القدرة علي الوصول إلي حلول وسط! إن أحدا لا يمتلك الحقيقة المطلقة. وبالمثل, فإن كل رأي وكل موقف له جوانبه الإيجابية والسلبية, وبالتالي فإن أحد شروط الحوار الناجح هو أن يدخله أطرافه وهم مستعدون للقبول بتنازلات معينة, إذا هم أرادوا الوصول إلي نتيجة إيجابية من الحوار. وتحفل أدبيات فن التفاوض في العلوم السياسية بالكثير من الاختيارات التي يكون علي المتفاوضين أن يصلوا إليها, وأن أحد أهم البدائل النظرية لأي مفاوضات هو أن يسعي طرف ما لأن يفرض رأيه وإرادته علي الطرف الآخر, بحيث نكون إزاء معادلة صفرية أي إما أنا وإما أنت.غير أنه بعيدا عن تعقيدات آليات التفاوض, يظل من المشروع, بل والمفروض, ألا يدخل طرف سياسي في إطار نظام ديمقراطي حقيقي- في حوار أو مناظرة أو تنافس مع طرف آخر, إلا ويكون في ذهنه إمكانية أو احتمال الوصول إلي نوع من المواءمة بين الإرادات والرغبات المختلفة, تكون في النهاية حلا توافقيا, وليس فرضا من طرفا علي آخر, وليس أيضا فشلا أو توقفا للحوار.وبداهة, فإن التوصل إلي التوافق أو الحل الوسط في الممارسة السياسية الديمقراطية يتعدي بكثير مجرد المحاجات والمناظرات السياسية أو النظريات, ولكنه يترجم في شكل إعلانات أو توافقات سياسية, بل وربما في شكل تفاهمات مؤسسية أو إجرائية, مثل التوافق علي تشكيل مجلس أو هيئة معينة تجمع بين الأطراف المتباينة, أو اتباع سياسة معينة تعكس مثل هذا التوافق.. وهكذا.وأخيرا, فإن السؤال المتبقي والمهم هو: ما هي الجهة المسئولة أو المنوط بها غرس وتنمية تلك الثقافة الديمقراطية في المجتمع؟ والإجابة أنها مسئولية كل الأطراف: الأحزاب السياسية, والإعلام, ومؤسسات المجتمع المدني, فضلا عن الأسرة, والمدرسة, والمسجد, والكنيسة, والنادي, والنقابة.. ولكن كيف يتم ذلك؟ وهل يفترض أن تقوم تلك المؤسسات بهذا الدور, قبل أن تكون هي نفسها مؤسسات ديمقراطية؟! تلك قضية أخري كبيرة تحتاج إلي بحوث ومناقشات جادة وملحة! المزيد من مقالات د:أسامة الغزالى حرب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

مدونة نهضة مصر