الأحد، يوليو 24

الكتاب - وثيقة الأزهر: المعنى والدلالة

الكتاب - وثيقة الأزهر: المعنى والدلالة
وثيقة الأزهر: المعنى والدلالة بقلم: فاروق شوشة
فاروق شوشة
251
عدد القراءات
أخيرا، وفي عهد عالم جليل هو الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، أصبح للأزهر صوته المسموع، ورأيه الذي أيقظ عقول الناس وقلوبهم، في ختام حوار واسع مثمر،

قام به شيخ الأزهر وعلماؤه مع نخبة كبيرة من رجال الفكر والثقافة والمجتمع والسياسة، يمثلون تيارات شتي واجتهادات عديدة وأطيافا من نسيج المجتمع، وكان للأزهر فضل السبق بالدعوة إلي الحوار والمشاركة، وفضل التوجه إلي من رأي فيهم رموزا لمصر المعاصرة، وتوسم في نيل مقاصدهم طريقا قويما موصلا إلي الغاية. وأشهد أنني شهدت الدكتور أحمد الطيب عن كثب، واستمعت إليه كثيرا عندما كان رئيسا للجنة الدينية في مجلس أمناء اتحاد الاذاعة والتليفزيون، وكنت رئيسا لقطاع الاذاعة وعضوا بالمجلس في ذلك الحين. وكان الدكتور الطيب يمثل في كل ما يعرض له من موضوعات وقضايا النظر الهاديء المتعمق، والحوار العقلي المترفع، في لغة عفة مقتصدة، وفي كبرياء من يعرف للعالم كرامته وقدره ومنزلته، من غير زلفي أو رياء، أجل كان قليل الكلام موفور الفكر، خفيض النبر واضح التوجه، ولقد سمعته في أكثر من مرة وهو يعترض علي كثير مما تعرضه شاشة التليلفزيون، وانتقاده المسئولين الذين يعدون بالاستجابة لما يراه صوابا ثم يتنكرون لما التزموا بتنفيذه، وعندما رأي أن الفساد قد طغي، أعلن أنه لن يعود للمشاركة في حوار المجلس العبثي، وخرج بالفعل ولم يعد. وحين ألت إليه مشيخة الأزهر أدركت أن شيئا جديدا سيحدث. وأن الأزهر سيعود إليه صوته ومواقفه وحمله المسئولية والأمانة. وجاءت وثيقة الأزهر مؤكدة هذا التوجه الذي لم يفاجيء من يعرفون الشيخ حق المعرفة، ويرون فيه امتدادا للسلف الصالح منذ الإمام محمد عبده، مروراً بكثير من رجالات الأزهر الذي ضربوا أروع الأمثلة في حفظ كرامة العلم وكرامة الأزهر والوقوف في وجه السلاطين، والملوك والحكام، والارتفاع عن الدنايا في القول والسلوك، والممالأة، والانحراف في جوقة المنتفعين والمنافقين. وقد أسفت كثيرا لأن عوائق حالت بيني وبين الاقتراب من حوارات اللجنة التي شكلت لعمل هذه الوثيقة، لكن الصديق العزيز الدكتور محمود العزب ـ أستاذ الفلسفة الاسلامية بالسوربون، الذي عاد إلي الوطن ليشارك في العمل الجليل الذي يتصدي له الأزهر الآن مستشارا لشيخ الأزهر ـ كان يطلعني باستمرار في لقاءاتنا بمجلس أمناء اتحاد الاذاعة والتليفزيون علي ما يدور في اللجنة، والتوجهات والإرهاصات التي توشك أن تنتهي إليها الحوارات. وحين أعلنت الوثيقة وتم نشرها علي الناس، كان عجبي شديدا وأنا أطالع بعض الكتابات التي خان أصحابها التوفيق وهم يثيرون قضية اشتغال الأزهر بالسياسة، ويتساءلون في استنكار ما للأزهر والخوض في مثل هذه القضايا؟ وكأنهم لم يقرأوا التاريخ!، التاريخ الحديث علي الأقل، ولم يتوقفوا أمام الدور الذي قام به الأزهر وعلماؤه الأجلاء في وجه الحملة الفرنسية، وطغيان قادتها، وانتهاكهم حرمة الأزهر، والدور العظيم الذي قام به الأزهر ورجال الدين المسيحي في تأكيد الوحدة الوطنية التي قصمت ظهر المستعمرين الفرنسيين والانجليز من بعدهم، وصولا إلي ثورة 9191، التي كان رجالات الأزهر في مقدمة صفوفها وأرواحهم علي أكفهم، وأصواتهم تدوي بهتافات الوطنية والوحدة والتحرر والحرية والاستقلال. وأسعدني أن أري من بين المفكرين والكتاب ـ من اتجاهات شتي ـ من يطالبون بأن تكون وثيقة الأزهر من بين الوثائق المهمة التي يهتدي بها واضعو الدستور والمسئولون عن رسم مستقبل هذه الأمة، الذي يشكو كثيرون مما يسوده أخيرا من غيوم، ومن عدم وضوح الصورة أمام من يحاولون اختراق حواجز الرؤية واقتحام القادم من الأيام، حتي يروا مالا نراه، وينبهونا إلي خطر داهم أو خروج علي النص. هي إذن وثيقة لجلاء ما يسمي بوسطية الاسلام الرشيدة، البعيدة عن كل غلو أو تعصب أو ضيق أفق، وتوضيح علاقة الدولة بالدين، واستقطار خبرات الفكر من مجالات معرفية شتي، من بينها الفلسفة والقانو ن والابداع في كل صوره وأشكاله، وتجليات الفنون، بوصفها جميعا دعامات النهضة المرجوة وأسسها القوية الراسخة. وليتأمل المتأملون صورة الدولة التي تسعي وثيقة الأزهر إلي الدعوة لها وتبنيها: دولة دستورية تقوم علي أسس من الديمقراطية والمواطنة وكفالة التعددية والتداول السلمي للسلطة. وقد يكون طريفا أن نلاحظ أن الوثيقة قد تجنبت عبارة الدولة المدنية، لكن ما تبنته من أسس وقيم ومباديء، يصب جميعه في ميزان الدولة المدنية وإن لم تذكر نصا، خصوصا وهي تتناول الاحترام الكامل لدور العبادة عند أصحاب الديانات السماوية الثلاث، وضمان الممارسة الحرة لجميع الشعائر الدينية. دون أن تغفل طبيعة الانتماء العربي والاسلامي والافريقي، وتأييد قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، المكتملة السيادة، والدعوة إلي استقلال مؤسسة الأزهر وعودة هيئة كبار العلماء التي لها وحدها حق ترشيح شيخ الأزهر واختياره وضمان حيدته واستقلاليته. الذين أطلقوا علي هذه الوثيقة وثيقة التنوير صادقون ومعهم الحق كله. والذين رأوا فيها استعادة دور الأزهر واستعادة علمائه ـ بالتالي ـ مكانتهم وريادتهم ودورهم وتأثيرهم في حاضر مصر ومستقبلها، متكاتفين متآزرين مع غيرهم من حكماء القوم ومفكريهم ومبدعيهم، هم علي حق تماما في استنتاجهم وتصورهم. والذين رأوا فيها أيضا تحركا واعيا لسد الفجوة بين ثقافة النخبة وثقافة الجماهير وإنتاج خطاب جديد، مباشر وواضح وبسيط، يحمل وسطية الأزهر الشريف، ويجلو فكره وحقيقة رسالته، هم أيضا يضعون أصابعهم علي نقاط جديرة بالتنبه والالتفات. لقد شهدت عديدا من المؤتمرات والملتقيات التي كان يجيء فيها ذكر الاسلام ـ متخللا الحوار ـ بمناسبة وغير مناسبة. ولا أنسي مرة انفعل فيها أحد المفكرين الأجانب المهتمين بدراسة الاسلام المعاصر وقضاياه وهو يقول: لقد أتعبتمونا كثيرا أيها السادة وأنتم تتكلمون عن الاسلام وتجلياته المتعددة. أيها تقصدون؟ إسلام الشيعة أم إسلام الشرق الأقصي في باكستان وأفغانستان وإندونيسيا وغيرها أم إسلام المصريين؟ وأقول له الآن ردا علي تساؤلاته: إنه الاسلام الذي يدعو إليه وينادي به الأزهر الشريف في مصر وأقرأ وثيقة الأزهر!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

مدونة نهضة مصر