فريضة سؤال أهل العلم
فريضة سؤال أهل العلم
أتذكر في دروسي الأولي في مادة علم الإنسان, وهي مادة تختص بدراسة أنماط السلوك البشري لدي القبائل البدائية, كيف أن أستاذنا الراحل الدكتور علي عيسي
قد صدمنا حين قال عبارة مؤداها أن رجل العلم الحق هو ذلك الذي يوقن أن ما يجهله أكثر مما يعرفه, وأن ذلك الذي يجهله قابل للمعرفة العلمية, وأنه كلما ازداد المرء علما ازداد وعيا بجهله وازداد يقينا بضرورة وإمكانية فض تلك المجهلة.
ورسخ لدي الدرس حين قرأت في أسس المنهج العلمي, وتاريخ تطور العلوم, لأكتشف أن أولي سمات رجل العلم هي التعرف علي مناطق جهله, وأن المرء يظل عالما ما طلب العلم, فإذا ظن أن علمه اكتمل فقد جهل, وأن أولي خطوات البحث العلمي الصحيح بلورة سؤال لا نعرف الإجابة عليه.
وتذكرت أيضا أن أستاذنا الراحل الأستاذ الدكتور لويس كامل مليكة قد نبهنا في دروسه عن أنماط القادة وأساليب القيادة إلي نمط عفي عليه الزمن رغم ما يميزه من بريق, إنه نمط القائد الملهم الذي لا يعتمد في اتخاذه قراراته إلا علي بصيرته الثاقبة, وذكائه الفذ و معرفته الشاملة و قدراته غير المحدودة, وكيف أن ذلك النمط قد ارتبط تاريخيا بأسلوب القيادة الدكتاتورية.
لقد تغير العالم وتشابكت مشاكله ولم يعد في مقدور قائد كائنا ما كانت عبقريته أن يزعم أنه قد أحاط بكل شيء علما; بل إن العبقرية الفردية لم تعد العلامة المميزة لمن يحصلون علي جوائز نوبل في الفيزياء مثلا, ويكفي المقارنة بين فريق الباحثين الذين أشاد زويل بمساهمتهم في تحقيق إنجازه العلمي, واينشتين الذي حصل علي نفس الجائزة نتيجة جهد فردي, وإن كان البعض قد أصبحوا يشككون في مدي فردية هذا الجهد.
ولقد عرف التاريخ صورة مناظرة لصورة القائد الملهم تمثلت في ظاهرة الجماعة الملهمة أو النخبة القائدة, جماعة أوتيت من العلم والحكمة ما لا يمكن أن يتوافر لغيرها; وهي تنفرد بمعرفة ما هو صالح للناس وما هو ضار بهم, ومن ثم فلها القيادة وللآخرين الانصياع, ومع انهيار الخلافة العثمانية وانهيار الاتحاد السوفييتي وتوالي سقوط نظم شمولية, سقط ذلك الوهم عمليا, ولكن بقيت تلك الصورة البالية تتمسك بالحياة حيث الجهل والتخلف و الدكتاتورية, ولقد شهدنا في تاريخنا الحديث كيف أن الزعيم لجأ يوما إلي اثنين من كبار مستشاريه ممن لا تنقصهم الحكمة ولا العلم ولا الذكاء ليطلب مشورتهم في أمر عاجل فإذا بهم بعد فترة يقولان له ما معناه إن بصيرة القائد تكون أحيانا أصدق من مشورة الخبراء. إن قادة العالم المتحضر يتفاخرون و لو حتي علي سبيل الادعاء باعتمادهم علي فرق تضم العديد من المستشارين ذوي الخبرة, لقد اختفت عبارة قصص ألف ليلة الشهيرة, حيث كان الملك يسأل وزيره التدبير فيرد الوزير مطأطئا رأسه التدابير لك يا مولاي ليحل محلها علي أهل الاختصاص تزويد السلطة بالبدائل لتتخذ قراراتها علي بينة.
ولذلك ينبغي أن ينتابنا الفزع حين نشهد الاستعاضة عن الأسلوب العلمي في طلب مشورة أهل الاختصاص بالاستماع إلي من يبدون الرأي دون تخصص أو حتي علم بدقائق الموضوع المطروح, لقد شهدنا من المتخصصين في الهندسة أو القانون أو الشريعة أو السياسة علي سبيل المثال من يبدون الرأي ويقدمون المشورة علنا في الأمور العسكرية والأمنية والاقتصادية بل تلك المتعلقة بعلوم الزراعة والموارد المائية فضلا عن فنيات إدارة الحرب النفسية وعلم إدارة الأزمات.
إن أحدا لا ينكر علي أحد الحق في إبداء ما شاء من آراء; وإلا عدنا إلي منزلق الاحتكار النخبوي للفكر وللقيادة, ولكن إبداء الرأي علي إطلاقه يختلف عن المشورة المتخصصة بشأن إدارة أزمة تتعلق بموضوع محدد, ويضيق المقام عن تفاصيل علم إدارة الأزمات وتطبيقاته العملية, وهو ما لا أظنه غائبا عن مؤسسات الدولة المصرية العتيدة.
إن مؤسسات توليد الأفكار, قد أصبحت تتجاوز الآلاف في عالم اليوم, ومجال عملها الأساسي والوحيد هو صناعة الأفكار وصياغة البدائل, وهي صناعة بكل ما تعنيه الكلمة, وقد تتعدد مسميات تلك المؤسسات بين مراكز البحوث الإستراتيجية, أو بنوك التفكير, أو مراكز دراسات الرأي العام, أو مراكز البحوث المستقبلية, ولكنها تبقي في النهاية من أبرز الأشكال المعاصرة للصناعات الأساسية الثقيلة: صناعة الأفكار.
ولكن تلك الصناعة تكاد تحتل ذيل قائمة الاهتمامات في بلادنا, سواء من حيث ندرة مؤسساتها, أو من حيث انكماش سوقها بمعني قلة الطلب عليها, حيث مازلنا فيما يبدو أسري مقولة أن التفكير عملية تلقائية ذاتية, وأن اتخاذ القرارات لا يحتاج للاعتماد علي مثل تلك الصناعة, وأنه يكفي القائد عند الضرورة أن يوجه دعوة مفتوحة لأهل الفكر, والسياسي للتداول العام في الموضوع.
ويظل التساؤل قائما: تري هل يمكن أن تشهد بلادنا طلبا حقيقيا علي منتجات هذا النوع من التفكير الجماعي العلمي؟ وهل آن الأوان لمراكز البحث العلمي في بلادنا أن تنطلق في هذا الاتجاه؟
ورسخ لدي الدرس حين قرأت في أسس المنهج العلمي, وتاريخ تطور العلوم, لأكتشف أن أولي سمات رجل العلم هي التعرف علي مناطق جهله, وأن المرء يظل عالما ما طلب العلم, فإذا ظن أن علمه اكتمل فقد جهل, وأن أولي خطوات البحث العلمي الصحيح بلورة سؤال لا نعرف الإجابة عليه.
وتذكرت أيضا أن أستاذنا الراحل الأستاذ الدكتور لويس كامل مليكة قد نبهنا في دروسه عن أنماط القادة وأساليب القيادة إلي نمط عفي عليه الزمن رغم ما يميزه من بريق, إنه نمط القائد الملهم الذي لا يعتمد في اتخاذه قراراته إلا علي بصيرته الثاقبة, وذكائه الفذ و معرفته الشاملة و قدراته غير المحدودة, وكيف أن ذلك النمط قد ارتبط تاريخيا بأسلوب القيادة الدكتاتورية.
لقد تغير العالم وتشابكت مشاكله ولم يعد في مقدور قائد كائنا ما كانت عبقريته أن يزعم أنه قد أحاط بكل شيء علما; بل إن العبقرية الفردية لم تعد العلامة المميزة لمن يحصلون علي جوائز نوبل في الفيزياء مثلا, ويكفي المقارنة بين فريق الباحثين الذين أشاد زويل بمساهمتهم في تحقيق إنجازه العلمي, واينشتين الذي حصل علي نفس الجائزة نتيجة جهد فردي, وإن كان البعض قد أصبحوا يشككون في مدي فردية هذا الجهد.
ولقد عرف التاريخ صورة مناظرة لصورة القائد الملهم تمثلت في ظاهرة الجماعة الملهمة أو النخبة القائدة, جماعة أوتيت من العلم والحكمة ما لا يمكن أن يتوافر لغيرها; وهي تنفرد بمعرفة ما هو صالح للناس وما هو ضار بهم, ومن ثم فلها القيادة وللآخرين الانصياع, ومع انهيار الخلافة العثمانية وانهيار الاتحاد السوفييتي وتوالي سقوط نظم شمولية, سقط ذلك الوهم عمليا, ولكن بقيت تلك الصورة البالية تتمسك بالحياة حيث الجهل والتخلف و الدكتاتورية, ولقد شهدنا في تاريخنا الحديث كيف أن الزعيم لجأ يوما إلي اثنين من كبار مستشاريه ممن لا تنقصهم الحكمة ولا العلم ولا الذكاء ليطلب مشورتهم في أمر عاجل فإذا بهم بعد فترة يقولان له ما معناه إن بصيرة القائد تكون أحيانا أصدق من مشورة الخبراء. إن قادة العالم المتحضر يتفاخرون و لو حتي علي سبيل الادعاء باعتمادهم علي فرق تضم العديد من المستشارين ذوي الخبرة, لقد اختفت عبارة قصص ألف ليلة الشهيرة, حيث كان الملك يسأل وزيره التدبير فيرد الوزير مطأطئا رأسه التدابير لك يا مولاي ليحل محلها علي أهل الاختصاص تزويد السلطة بالبدائل لتتخذ قراراتها علي بينة.
ولذلك ينبغي أن ينتابنا الفزع حين نشهد الاستعاضة عن الأسلوب العلمي في طلب مشورة أهل الاختصاص بالاستماع إلي من يبدون الرأي دون تخصص أو حتي علم بدقائق الموضوع المطروح, لقد شهدنا من المتخصصين في الهندسة أو القانون أو الشريعة أو السياسة علي سبيل المثال من يبدون الرأي ويقدمون المشورة علنا في الأمور العسكرية والأمنية والاقتصادية بل تلك المتعلقة بعلوم الزراعة والموارد المائية فضلا عن فنيات إدارة الحرب النفسية وعلم إدارة الأزمات.
إن أحدا لا ينكر علي أحد الحق في إبداء ما شاء من آراء; وإلا عدنا إلي منزلق الاحتكار النخبوي للفكر وللقيادة, ولكن إبداء الرأي علي إطلاقه يختلف عن المشورة المتخصصة بشأن إدارة أزمة تتعلق بموضوع محدد, ويضيق المقام عن تفاصيل علم إدارة الأزمات وتطبيقاته العملية, وهو ما لا أظنه غائبا عن مؤسسات الدولة المصرية العتيدة.
إن مؤسسات توليد الأفكار, قد أصبحت تتجاوز الآلاف في عالم اليوم, ومجال عملها الأساسي والوحيد هو صناعة الأفكار وصياغة البدائل, وهي صناعة بكل ما تعنيه الكلمة, وقد تتعدد مسميات تلك المؤسسات بين مراكز البحوث الإستراتيجية, أو بنوك التفكير, أو مراكز دراسات الرأي العام, أو مراكز البحوث المستقبلية, ولكنها تبقي في النهاية من أبرز الأشكال المعاصرة للصناعات الأساسية الثقيلة: صناعة الأفكار.
ولكن تلك الصناعة تكاد تحتل ذيل قائمة الاهتمامات في بلادنا, سواء من حيث ندرة مؤسساتها, أو من حيث انكماش سوقها بمعني قلة الطلب عليها, حيث مازلنا فيما يبدو أسري مقولة أن التفكير عملية تلقائية ذاتية, وأن اتخاذ القرارات لا يحتاج للاعتماد علي مثل تلك الصناعة, وأنه يكفي القائد عند الضرورة أن يوجه دعوة مفتوحة لأهل الفكر, والسياسي للتداول العام في الموضوع.
ويظل التساؤل قائما: تري هل يمكن أن تشهد بلادنا طلبا حقيقيا علي منتجات هذا النوع من التفكير الجماعي العلمي؟ وهل آن الأوان لمراكز البحث العلمي في بلادنا أن تنطلق في هذا الاتجاه؟