تراث و حضارة - حكايات مـن دفتـر الاستقلال
في مثل هذه الأيام وتحديدا في الثامن والعشرين من فبراير عام...1922 كان المصريون في الشوراع والحواري والأزقة يضعون أيديهم علي قلوبهم..
كل المصريين التفوا حول مطالب الحرية
في مثل هذه الأيام وتحديدا في الثامن والعشرين من فبراير عام...1922 كان المصريون في الشوراع والحواري والأزقة يضعون أيديهم علي قلوبهم..
كل المصريين التفوا حول مطالب الحرية
فهناك حدث ينتظرونه منذ زمن, وهناك رغبة أبسط ما توصف به أنها رغبة عميقة في إطلاق عنان مصر التي كانت في ذلك الوقت ماتزال أسيرة الاحتلال البريطاني.
فصحيح ان ثورة1919 قد حمل مدها الثوري الزعيم سعد زغلول وآخرون يعيشون في حلم الاستقلال. فهي من جعل الناس يعيشون في حمي أحلامها. فنجاح الثورة وعودة الزعماء من المنفي كانا أكثر من استهلال ومقدمة لتصريح28 فبراير عام1922 الذي ينظر إليه بعض المؤرخين علي انه مجرد محاولة للاستقلال مثل غيره من المحاولات التي سبقته وإن كنا ننظر إليه اليوم بوصفه مقدمة لأهم الدساتير المصرية وهو دستور.1923
ولكي نحل اللغز ونفهم الحكاية لنعرف ما ينتظرنا غدا في المحروسة مصر لابد من إعادة قراءة لما كان.
ففي قراءة الاوراق المصرية إعادة وإفادة كما كنا نسمع في الدروس المدرسية, إلا اننا لا يمكن أن نقصر حكايتنا علي حد الاستفادة من الدروس الماضية في تاريخ مصر. فالآن نضيف سؤالا مباشرا حول الثورة التي يعقبها محاولة للبحث عن الهوية المصرية ثم إصدار دستور يأتي مترجما للتيار القومي المصري و محيطا بكل الاحلام الوطنية.
فبصراحة ووضوح.. هل سيعقب ثورة25 يناير محاولة للبحث عن مصر الجديدة تكون السبيل إلي إصدار دستور يبني للمصريين ويقرر لهم خريطة الطريق التي تجعلنا كمصريين وخلال سنوات قليلة مقبلة جديرين بأحلام الاستقلال, والتقدم والعودة إلي الزمن الجميل لهذا البلد الأمين؟ أم أن الماضي قصص لا تتكرر وخاصة بالنسبة للذين يريدون فرض حمايتهم علي أرض مصر؟!مجرد سؤال.
أيام لها تاريخ:
قبل أن نصل إلي ذلك التصريح الذي صدر في آواخر شهر فبراير لابد أولا أن نتوقف عند ما كتبه د. محمد صبري السوربوني في كتابه الثورة المصرية من خلال وثائق حقيقية وصور التقطت أثناء الثورة والذي صدر باللغة الفرنسية فقد كانت مثل ثورتنا الحالية عفوية إذ سببتها سياسة الخنق المنظم ضد شعب تعداده أربعة عشر مليون نسمة مجمع علي حقه في الاستقلال والحرية. وهناك هدف ليس بسيطا قد تم تحقيقه يتمثل في ان المسألة المصرية فرضت نفسها علي الاهتمام العالمي وعلي ضمائر الرجال الاحرار وعلي مؤتمر السلام.
فالمصريون قد أسهموا في انتصار الحلفاء واعتقدوا انهم أسهموا في انتصار قضية كانوا سيستفيدون منها بحق إذ وضعوا في حوزة الحلفاء نحو مليون ومائتي ألف من العمال والجنود وكل موارد الدولة من النقد و المنتجات الزراعية والصناعية. وباعتراف المارشال اللنبي نفسه ان التعاون المصري واحد من العوامل الأكثر حسما في الانتصار علي الاتراك.
إذن فالمسألة المصرية ــ كما جاء سلفا في كتاب الدكتور السوربوني ــ حسب التعبير السياسي والحضاري أصبحت حكاية ملحة. فمصر كانت تنتظر الحرية ووجدت في سعد زغلول ورفاقه صوتا مسموعا إعترفت به شوراع وحواري مصر قبل مؤتمر الصلح في باريس.
تصريح وتعليق بريطاني:
ولهذا جاء تصريح28 فبراير1922 ليعالج ولو بشكل وقتي ذلك الاحتقان الثوري وقد ظهر في خطاب الحكومة البريطانية إلي عظمة السلطان, حيث إن الناس ــ حسب العقلية البريطانية ــ قد فهموا العبارات التي كانت قد ظهرت في مذكرة تفسيرية بشكل لا تحتمله.
فبالنسبة للتبريرات البريطانية ما حدث ان كثيرا من المصريين قد ألقي في روعهم رجوع بريطانيا العظمي في نواياها القائمة علي التسامح والعطف علي الأماني المصرية وانها تنوي الانتفاع بمركزها الخاص بمصر واستبقاء نظام سياسي اداري لا يتفق والحريات التي وعدت بها وهذا غير صحيح.
فبريطانيا العظمي صادقة الرغبة في أن تري مصر متمتعة بما تتمتع به البلاد المستقلة من ميزات أهلية ومركز دولي. وقد الجأ انجلترا إلي ذلك حرصها علي سلامة نفسها تجاه حالة تتطلب أشد الحذر فيما يتعلق بتوزيع القدرات العسكرية. وسيأتي وقت تكون فيه حالة مصر مدعاة للثقة بما تقدمه من ضمانات مصرية لصيانة المصالح الأجنبية.
فانجلترا ليست راغبة في التدخل في إدارة مصر وأصدق رغباتها أن تترك للمصريين إدراة شئونهم وما ورد من ذكر موظفين بريطانيين لوزارتي المالية والحقانية لا يعني التدخل في شئون مصر بل استبقاء اداة اتصال تستدعيها لحماية المصالح الأجنبية.
وانجلترا تكره الاضطرار إلي التدخل والتدابير مصلحة للقضية القومية المصرية التي تستفيد من ان البحث فيها يجري في جو قائم علي الهدوء والمناقشة بإخلاص.
والحكمة هي قوام الخلق المصري وليس هناك ما يمنع من إعادة منصب وزير الخارجية والعمل لتحقيق التمثيل السياسي والقنصلي لمصر. أما إنشاء البرلمان الذي يتمتع بحق الاشراف والرقابة علي السياسة في حكومة مسئولة علي الطريقة الدستورية..فالأمر يرجع لعظمتكم.
وهكذا تنتهي جملة التبريرات البريطانية لنلتفت إلي رد الفعل الوطني المصري.
صحافة مصر:
ففي الصحافة المصرية يبدو ان كل شيء كان معدا لاستقبال طيف الاستقلال. فالأهرام تكتب يوم28 فبراير وبصراحة نقدا للورد اللنبي المعتمد البريطاني في افتتاحيتها اللورد اللنبي بيننا حيث قالت: الاهرام... لا نظن ان الاختبار الذي أراده الانكليز في مصر من5 ديسمبر1919 إلي اليوم علمهم شيئا آخر سوي شدة عزيمة المصريين في طلبهم ومضائهم في المنهج الذي انتهجوه لأنفسهم.
فمن لجنة ملنر إلي الوفد المصري إلي الوفد الرسمي بين ذلك كله لم تتكشف لهم الحوادث والاطوار عن ضعف في العزيمة ولا عن حزب معتدل- الاعتدال مسايرتهم فيما يريدون-ولا عن تقهقر في المطالب. بل تكشف لهم الأمر عن الضد فعرفوا انه ليس في المصريين وفيما يطلبون لوطنهم حزبان ولا رأيان.
فاليوم يعدنا اللورد اللنبي بأنه يحمل الينا اصلاح ما افسده تشرشل بشدته. واليوم نقول نحن لجناب اللورد أرنا ما فعلت وعلي قدر ذلك العمل يكون حكمنا فقط.
فالواقع ليس بالاتفاق بين مصر وانجلترا لإن قاعدة الاتفاق لا يمكن ان تكون في نظر المصريين شيئا سوي الاستقلال والجلاء وإعادة حقوق مصر إليها كاملة. ولكن التسوية الوقتية ليرضي المصريون بتأليف وزارة فعلي قدر هذه التسوية الوقتية يكون الدليل علي مجري سياستهم وتحول هذا المجري أو عدم تحوله.
أما جريدة مصرفنشرت نقلا عن جريدة الماتان:إنه من الصعب الآن الخوض في السياسة المصرية أو السياسة الانكليزية المصرية فقد قبض علي ثمانية من أعضاء الوفد الذي تألف عقب إبعاد زغلول باشا وأشهر أعوانه. وكان هذا الوفد الجديد أعلن في منشور أصدره بمقاطعة البضائع الانكليزية, وحث الموظفين علي عدم الطاعة. وقد عطلت خمس جرائد عربية لنشرها هذا المنشور. وبعد يومين أطلق سراح الأعضاء الثمانية علي ألا يعودوا لإشعال نار الثورة وظهرت الصحف التي عطلت ثانية وفي الوقت ذاته علمنا ان اللورد اللنبي-المعتمد البريطاني-قد استدعي في لندن لأخذ رأيه.
أما موقف عبد الخالق ثروت المرشح لرئاسة الوزارة ــ وهو ماحدث بعد صدور التصريح ــ فكانت محل هذا الحوار الذي أجرته جريدة مصر المستقلة:
< هل توافق يا سعادة الباشا علي تصريحات الحكومة الانجليزية التي نشرتها أخيرا بالشروط التي عرضتموها سعادتكم لقبول تأليف الوزارة؟
<< انني طلبت من الحكومة الانجليزية إلغاء الحماية والاعتراف باستقلال مصر وإنشاء مجلس نواب تكون الوزارة مسئولة أمامه مع تغيير النظام الاداري الحالي. وستعين هذه الوزارة تحت إشراف مجلس النواب وفدا رسميا للمفاوضة ووضع قواعد الاتفاق بين بريطانيا العظمي ويجدد هذا الاتفاق الضمانات اللازمة لحماية مصالح الامبراطورية البريطانية والأجانب وسيعرض الاتفاق طبعا علي مجلس النواب.
وفي جريدة مصر أيضا نقلا عن جريدة الجورنال الباريسية, يعلق سنت برايس الصحفي الفرنسي نصا بأنه لا توجد مسألة أسهل حلا من المسألة المصرية إلا ان العقبة الوحيدة تكمن في رغبة الاستعمار الانكليزي فإذا زالت هذه الرغبة زال كل أمر.
أما وكالة روتر فتناولت أنباء تمهيدية للتصريح المرتقب كما تضمنت أراء وتعليقات ومنها:
وعد اللورد كرزون أن يقدم إلي البرلمان أوراق المسألة المصرية في يوم28 فبراير,نبأ من لندن بتاريخ13 فبراير الحالي أهتزت به الأسلاك البرقية إلي مصر قد يقرأه في معرض الأخبار كل من يلقي عليها النظرات السريعة بلا تأمل ولا تفكير ولكن الذي يلقي باله إلي كل أمر خاص بالمسألة المصرية لا يسعه إلا أن يسأل نفسه قائلا تري ماذا في تلك الاوراق؟ ولماذا تعين يوم28 فبراير موعدا لألقائها علي طاولة مجلس البرلمان البريطاني؟
إن جوابا حاسما للسؤال الأول قد يكون الآن غير موجود إلا إذا كانت تلك الأوراق التي يراد طرحها في المجلس تشتمل علي سلسلة تجارب سياسية لم تنجح منها تجربة أو تشتمل علي التسوية المزعومة والحل الوقتي الذي يحمل منه اللورد اللنبي صورة في حقيبته, وأما جواب السؤال الثاني فيعرفه من عرف أنه في وقت واحد سيذاع بلاغ رسمي عن المسألة المصرية في لندن وفي القاهرة.
ووتتابع الجريدة: ومهما يكن جهل أمة من الأمم بالسياسة وأساليبها ومناوراتها وحيلها سببا في أبعادها عن غايتها لانها غاية الحياة, إن الأمم تعد من يخالف مشيئتها خارجا أو خائنا ومن المحال أقناعها بغير تصورها فأكبر تضليل في العالم تضليل أمة بأسرها وأكبر جريمة في نظر الناس جريمة التسامح في الحق العام الذي ليس لشخص ولا لجماعة بل لبلاد بأجزائها وأفرادها,كذا الثقة في الأمم بأفراد منها جربتهم وأمتحنتهم لا تنتزع منهم بسهولة ولا توضع بالقوة في غيرهم,وحلول المسائل الخطيرة المعقدة لا تكون إلا بالوسائل المنقولة التي لا تتنافر مع طبائع الناس وأمزجتهم ومشيئاتهم.
واختتمت المقالة بعبارات يجب أن نقف عندها ونتفحصها جيداونصها الآتي لهذه الاعتبارات الكثيرة قد يجيء يوم28 فبراير ويجيء غيره من الأيام وغيره من الأسابيع والأشهر فتكثر المباحثات والمجادلات والمسألة المصرية باقية من غير حل حتي يتم حلها بالوسائط الحقيقية الفعالة ومن الأبواب الحقيقية المأمونة وليس في وسع أحد أن يحمل أمة علي قبول ما تأباه أو الرضا بما لا ترضاه. وهذا بالفعل ما أثبتته الأيام!
ونأتي إلي جريدة المقطم الموالية للاحتلال الانجليزي التي لا تستطيع في هذه الظروف الفارقة أن تأخذ صف إنجلترا. ففي افتتاحيتها في2 مارس1922 تقول:
بعد القراءة الأولي نظرة عمومية: ان البحث في مشروع كهذا المشروع وفي كل مشروع يمس مصير مصر ومستقبل أهلها في هذا الجيل والأجيال المقبلة يقتضي ان يجرد له الفكر في متسع من الزمان والصراحة في البيان.
ففي هذه الساعة الجليلة العظيمة الشأن في تاريخ مصر يأبي ضمير الصحافي الحر علي صاحبه أن يتصدر في مركز الحكم أو يستأثر بالحكم في القضية بل يري ان وظيفته الأولي هي ان يكون مرآة للرأي العام.
إضافة في تاريخ مصر الجديدة
وفي تعليق سريع للدكتورة. لطيفة سالم استاذة التاريخ الحديث والمعاصر بكلية اداب بنها قالت: إن هذا التصريح مهم جدا في تاريخ مصر, فيكفي ان نستعرض الاحداث منذ بداية ثورة1919 عندما سافر سعد زغلول ليطالب بالحقوق المصرية وما أعقب الثورة من محادثات ومفاوضات ومنها محادثات ملنر الشهيرة حتي حصلنا علي هذا التصريح.
فتصريح فبراير برغم ما عليه من تحفظات الا انه خطوة إلي الامام وانتزاع حقوق من إنجلترا في هذا الوقت. فيكفي ان ننظر لهذه الظروف حين كانت تسيطر انجلترا عسكريا, وكان ملنر وزير المستعمرات رجل لندن القوي له جبروته. فهناك تحفظات بلا شك علي وجود القوات الانجليزية ومسألة السودان والاقليات, ولكن يجب ان يقرأ التصريح في زمانه.
فتصريح فبراير سبب مباشر في دستور1923 أشهر الدساتير المصرية. صحيح ان الزعيم سعد زغلول قال عن الثلاثين القانونيين والسياسيين الذين وضعوا الدستور بأنها لجنة أشقياء ولكن هذا الدستور نفسه طالبنا بعودته عام.1930
وتصريح28 فبراير أنجب أيضا نظام حكم جديد في الشكل وليس المضمون ففي مارس تأسست الملكية المصرية وتحول السلطان إلي ملك.
وكل ثورة في مصر في العصر الحديث تمخض عنها دستور. فالثورة العرابية اظهرت أفكار7 فبراير1882, وثورة1919 أسست لدستور.1923 وبالنسبة لثورة1952 فقد كانت هناك محاولات في عام1954 ولكنه صدر عام.1956
ولهذا فثورة25 يناير لابد ان يكون لها دستور لتحديد الشكل القائم علي الحكم ثم البرلمان الذي يحدد الحقوق والواجبات كعقد اجتماعي.
وصحيح ان هناك رأيا يقول اننا تأخرنا ولكن لو نظرنا عبر التجارب الدستورية في العالم كله سنجدها قد حصلت علي وقت لازم لإنضاجها.
أما اطرف ما لقينا من تعليق علي تصريح28 فبراير1922 مقالة نشرت في جريدة مصر بتاريخ7 مارس1922, بعنوان أنتهاء الحماية نذكر منها فقرة عبرت عن رأي غالبية المصريين في تلك الفترة وكانت تقول: لعل أجمل فقرة حسبت تستهوي النفوس و تخلب الألباب وتسر القلوب ونحث فيها أطمئنانا هي الفقرة الأولي من التصريح البريطاني لمصر
ـ أنتهت الحماية البريطانية في مصر...... وإننا لنترك للمفسرين والشراح السياسيين قولهم أن كلمة أنتهت يجوز أن تكون بمعني ألغيت أو بمعني زالت وان كنا نفهم بأن كلمة أنتهت قد تكون بمعني تمت أو كملت لآن ألفاظ السياسيين ومدلولاتها لايمكن الأخذ بها كما هي, ولكن الفطن لايفرح بسطر وينسي سطورا أو بفقرة ثم يغفل بقية الفقرات وينأي بجانب عما بين السطور.
وبعد فأن قصة نفي الزعيم سعد زغلول وعودته.. وقصة الثورة والدستور انما تثبت أن مصر قد يتولي أمرها سياسيون تتعدد أفكارهم الا أنها تظل تعمل بروح الثورة التي تولد في كل زمن بملامح مختلفه.
فثمة عبقرية يختص بها أهل مصر يمثلها هذا الوجود للفهم الفطري بين المصريين وهو الذي يجعلهم في النهاية يحققون ما يريدون.
فقد انتقدوا تصريح28 فبراير ولكنه كان خطوة إلي الإمام...خطوة مفهومة إلي الاستقلال والدستور.
فصحيح ان ثورة1919 قد حمل مدها الثوري الزعيم سعد زغلول وآخرون يعيشون في حلم الاستقلال. فهي من جعل الناس يعيشون في حمي أحلامها. فنجاح الثورة وعودة الزعماء من المنفي كانا أكثر من استهلال ومقدمة لتصريح28 فبراير عام1922 الذي ينظر إليه بعض المؤرخين علي انه مجرد محاولة للاستقلال مثل غيره من المحاولات التي سبقته وإن كنا ننظر إليه اليوم بوصفه مقدمة لأهم الدساتير المصرية وهو دستور.1923
ولكي نحل اللغز ونفهم الحكاية لنعرف ما ينتظرنا غدا في المحروسة مصر لابد من إعادة قراءة لما كان.
ففي قراءة الاوراق المصرية إعادة وإفادة كما كنا نسمع في الدروس المدرسية, إلا اننا لا يمكن أن نقصر حكايتنا علي حد الاستفادة من الدروس الماضية في تاريخ مصر. فالآن نضيف سؤالا مباشرا حول الثورة التي يعقبها محاولة للبحث عن الهوية المصرية ثم إصدار دستور يأتي مترجما للتيار القومي المصري و محيطا بكل الاحلام الوطنية.
فبصراحة ووضوح.. هل سيعقب ثورة25 يناير محاولة للبحث عن مصر الجديدة تكون السبيل إلي إصدار دستور يبني للمصريين ويقرر لهم خريطة الطريق التي تجعلنا كمصريين وخلال سنوات قليلة مقبلة جديرين بأحلام الاستقلال, والتقدم والعودة إلي الزمن الجميل لهذا البلد الأمين؟ أم أن الماضي قصص لا تتكرر وخاصة بالنسبة للذين يريدون فرض حمايتهم علي أرض مصر؟!مجرد سؤال.
أيام لها تاريخ:
قبل أن نصل إلي ذلك التصريح الذي صدر في آواخر شهر فبراير لابد أولا أن نتوقف عند ما كتبه د. محمد صبري السوربوني في كتابه الثورة المصرية من خلال وثائق حقيقية وصور التقطت أثناء الثورة والذي صدر باللغة الفرنسية فقد كانت مثل ثورتنا الحالية عفوية إذ سببتها سياسة الخنق المنظم ضد شعب تعداده أربعة عشر مليون نسمة مجمع علي حقه في الاستقلال والحرية. وهناك هدف ليس بسيطا قد تم تحقيقه يتمثل في ان المسألة المصرية فرضت نفسها علي الاهتمام العالمي وعلي ضمائر الرجال الاحرار وعلي مؤتمر السلام.
فالمصريون قد أسهموا في انتصار الحلفاء واعتقدوا انهم أسهموا في انتصار قضية كانوا سيستفيدون منها بحق إذ وضعوا في حوزة الحلفاء نحو مليون ومائتي ألف من العمال والجنود وكل موارد الدولة من النقد و المنتجات الزراعية والصناعية. وباعتراف المارشال اللنبي نفسه ان التعاون المصري واحد من العوامل الأكثر حسما في الانتصار علي الاتراك.
إذن فالمسألة المصرية ــ كما جاء سلفا في كتاب الدكتور السوربوني ــ حسب التعبير السياسي والحضاري أصبحت حكاية ملحة. فمصر كانت تنتظر الحرية ووجدت في سعد زغلول ورفاقه صوتا مسموعا إعترفت به شوراع وحواري مصر قبل مؤتمر الصلح في باريس.
تصريح وتعليق بريطاني:
ولهذا جاء تصريح28 فبراير1922 ليعالج ولو بشكل وقتي ذلك الاحتقان الثوري وقد ظهر في خطاب الحكومة البريطانية إلي عظمة السلطان, حيث إن الناس ــ حسب العقلية البريطانية ــ قد فهموا العبارات التي كانت قد ظهرت في مذكرة تفسيرية بشكل لا تحتمله.
فبالنسبة للتبريرات البريطانية ما حدث ان كثيرا من المصريين قد ألقي في روعهم رجوع بريطانيا العظمي في نواياها القائمة علي التسامح والعطف علي الأماني المصرية وانها تنوي الانتفاع بمركزها الخاص بمصر واستبقاء نظام سياسي اداري لا يتفق والحريات التي وعدت بها وهذا غير صحيح.
فبريطانيا العظمي صادقة الرغبة في أن تري مصر متمتعة بما تتمتع به البلاد المستقلة من ميزات أهلية ومركز دولي. وقد الجأ انجلترا إلي ذلك حرصها علي سلامة نفسها تجاه حالة تتطلب أشد الحذر فيما يتعلق بتوزيع القدرات العسكرية. وسيأتي وقت تكون فيه حالة مصر مدعاة للثقة بما تقدمه من ضمانات مصرية لصيانة المصالح الأجنبية.
فانجلترا ليست راغبة في التدخل في إدارة مصر وأصدق رغباتها أن تترك للمصريين إدراة شئونهم وما ورد من ذكر موظفين بريطانيين لوزارتي المالية والحقانية لا يعني التدخل في شئون مصر بل استبقاء اداة اتصال تستدعيها لحماية المصالح الأجنبية.
وانجلترا تكره الاضطرار إلي التدخل والتدابير مصلحة للقضية القومية المصرية التي تستفيد من ان البحث فيها يجري في جو قائم علي الهدوء والمناقشة بإخلاص.
والحكمة هي قوام الخلق المصري وليس هناك ما يمنع من إعادة منصب وزير الخارجية والعمل لتحقيق التمثيل السياسي والقنصلي لمصر. أما إنشاء البرلمان الذي يتمتع بحق الاشراف والرقابة علي السياسة في حكومة مسئولة علي الطريقة الدستورية..فالأمر يرجع لعظمتكم.
وهكذا تنتهي جملة التبريرات البريطانية لنلتفت إلي رد الفعل الوطني المصري.
صحافة مصر:
ففي الصحافة المصرية يبدو ان كل شيء كان معدا لاستقبال طيف الاستقلال. فالأهرام تكتب يوم28 فبراير وبصراحة نقدا للورد اللنبي المعتمد البريطاني في افتتاحيتها اللورد اللنبي بيننا حيث قالت: الاهرام... لا نظن ان الاختبار الذي أراده الانكليز في مصر من5 ديسمبر1919 إلي اليوم علمهم شيئا آخر سوي شدة عزيمة المصريين في طلبهم ومضائهم في المنهج الذي انتهجوه لأنفسهم.
فمن لجنة ملنر إلي الوفد المصري إلي الوفد الرسمي بين ذلك كله لم تتكشف لهم الحوادث والاطوار عن ضعف في العزيمة ولا عن حزب معتدل- الاعتدال مسايرتهم فيما يريدون-ولا عن تقهقر في المطالب. بل تكشف لهم الأمر عن الضد فعرفوا انه ليس في المصريين وفيما يطلبون لوطنهم حزبان ولا رأيان.
فاليوم يعدنا اللورد اللنبي بأنه يحمل الينا اصلاح ما افسده تشرشل بشدته. واليوم نقول نحن لجناب اللورد أرنا ما فعلت وعلي قدر ذلك العمل يكون حكمنا فقط.
فالواقع ليس بالاتفاق بين مصر وانجلترا لإن قاعدة الاتفاق لا يمكن ان تكون في نظر المصريين شيئا سوي الاستقلال والجلاء وإعادة حقوق مصر إليها كاملة. ولكن التسوية الوقتية ليرضي المصريون بتأليف وزارة فعلي قدر هذه التسوية الوقتية يكون الدليل علي مجري سياستهم وتحول هذا المجري أو عدم تحوله.
أما جريدة مصرفنشرت نقلا عن جريدة الماتان:إنه من الصعب الآن الخوض في السياسة المصرية أو السياسة الانكليزية المصرية فقد قبض علي ثمانية من أعضاء الوفد الذي تألف عقب إبعاد زغلول باشا وأشهر أعوانه. وكان هذا الوفد الجديد أعلن في منشور أصدره بمقاطعة البضائع الانكليزية, وحث الموظفين علي عدم الطاعة. وقد عطلت خمس جرائد عربية لنشرها هذا المنشور. وبعد يومين أطلق سراح الأعضاء الثمانية علي ألا يعودوا لإشعال نار الثورة وظهرت الصحف التي عطلت ثانية وفي الوقت ذاته علمنا ان اللورد اللنبي-المعتمد البريطاني-قد استدعي في لندن لأخذ رأيه.
أما موقف عبد الخالق ثروت المرشح لرئاسة الوزارة ــ وهو ماحدث بعد صدور التصريح ــ فكانت محل هذا الحوار الذي أجرته جريدة مصر المستقلة:
< هل توافق يا سعادة الباشا علي تصريحات الحكومة الانجليزية التي نشرتها أخيرا بالشروط التي عرضتموها سعادتكم لقبول تأليف الوزارة؟
<< انني طلبت من الحكومة الانجليزية إلغاء الحماية والاعتراف باستقلال مصر وإنشاء مجلس نواب تكون الوزارة مسئولة أمامه مع تغيير النظام الاداري الحالي. وستعين هذه الوزارة تحت إشراف مجلس النواب وفدا رسميا للمفاوضة ووضع قواعد الاتفاق بين بريطانيا العظمي ويجدد هذا الاتفاق الضمانات اللازمة لحماية مصالح الامبراطورية البريطانية والأجانب وسيعرض الاتفاق طبعا علي مجلس النواب.
وفي جريدة مصر أيضا نقلا عن جريدة الجورنال الباريسية, يعلق سنت برايس الصحفي الفرنسي نصا بأنه لا توجد مسألة أسهل حلا من المسألة المصرية إلا ان العقبة الوحيدة تكمن في رغبة الاستعمار الانكليزي فإذا زالت هذه الرغبة زال كل أمر.
أما وكالة روتر فتناولت أنباء تمهيدية للتصريح المرتقب كما تضمنت أراء وتعليقات ومنها:
وعد اللورد كرزون أن يقدم إلي البرلمان أوراق المسألة المصرية في يوم28 فبراير,نبأ من لندن بتاريخ13 فبراير الحالي أهتزت به الأسلاك البرقية إلي مصر قد يقرأه في معرض الأخبار كل من يلقي عليها النظرات السريعة بلا تأمل ولا تفكير ولكن الذي يلقي باله إلي كل أمر خاص بالمسألة المصرية لا يسعه إلا أن يسأل نفسه قائلا تري ماذا في تلك الاوراق؟ ولماذا تعين يوم28 فبراير موعدا لألقائها علي طاولة مجلس البرلمان البريطاني؟
إن جوابا حاسما للسؤال الأول قد يكون الآن غير موجود إلا إذا كانت تلك الأوراق التي يراد طرحها في المجلس تشتمل علي سلسلة تجارب سياسية لم تنجح منها تجربة أو تشتمل علي التسوية المزعومة والحل الوقتي الذي يحمل منه اللورد اللنبي صورة في حقيبته, وأما جواب السؤال الثاني فيعرفه من عرف أنه في وقت واحد سيذاع بلاغ رسمي عن المسألة المصرية في لندن وفي القاهرة.
ووتتابع الجريدة: ومهما يكن جهل أمة من الأمم بالسياسة وأساليبها ومناوراتها وحيلها سببا في أبعادها عن غايتها لانها غاية الحياة, إن الأمم تعد من يخالف مشيئتها خارجا أو خائنا ومن المحال أقناعها بغير تصورها فأكبر تضليل في العالم تضليل أمة بأسرها وأكبر جريمة في نظر الناس جريمة التسامح في الحق العام الذي ليس لشخص ولا لجماعة بل لبلاد بأجزائها وأفرادها,كذا الثقة في الأمم بأفراد منها جربتهم وأمتحنتهم لا تنتزع منهم بسهولة ولا توضع بالقوة في غيرهم,وحلول المسائل الخطيرة المعقدة لا تكون إلا بالوسائل المنقولة التي لا تتنافر مع طبائع الناس وأمزجتهم ومشيئاتهم.
واختتمت المقالة بعبارات يجب أن نقف عندها ونتفحصها جيداونصها الآتي لهذه الاعتبارات الكثيرة قد يجيء يوم28 فبراير ويجيء غيره من الأيام وغيره من الأسابيع والأشهر فتكثر المباحثات والمجادلات والمسألة المصرية باقية من غير حل حتي يتم حلها بالوسائط الحقيقية الفعالة ومن الأبواب الحقيقية المأمونة وليس في وسع أحد أن يحمل أمة علي قبول ما تأباه أو الرضا بما لا ترضاه. وهذا بالفعل ما أثبتته الأيام!
ونأتي إلي جريدة المقطم الموالية للاحتلال الانجليزي التي لا تستطيع في هذه الظروف الفارقة أن تأخذ صف إنجلترا. ففي افتتاحيتها في2 مارس1922 تقول:
بعد القراءة الأولي نظرة عمومية: ان البحث في مشروع كهذا المشروع وفي كل مشروع يمس مصير مصر ومستقبل أهلها في هذا الجيل والأجيال المقبلة يقتضي ان يجرد له الفكر في متسع من الزمان والصراحة في البيان.
ففي هذه الساعة الجليلة العظيمة الشأن في تاريخ مصر يأبي ضمير الصحافي الحر علي صاحبه أن يتصدر في مركز الحكم أو يستأثر بالحكم في القضية بل يري ان وظيفته الأولي هي ان يكون مرآة للرأي العام.
إضافة في تاريخ مصر الجديدة
وفي تعليق سريع للدكتورة. لطيفة سالم استاذة التاريخ الحديث والمعاصر بكلية اداب بنها قالت: إن هذا التصريح مهم جدا في تاريخ مصر, فيكفي ان نستعرض الاحداث منذ بداية ثورة1919 عندما سافر سعد زغلول ليطالب بالحقوق المصرية وما أعقب الثورة من محادثات ومفاوضات ومنها محادثات ملنر الشهيرة حتي حصلنا علي هذا التصريح.
فتصريح فبراير برغم ما عليه من تحفظات الا انه خطوة إلي الامام وانتزاع حقوق من إنجلترا في هذا الوقت. فيكفي ان ننظر لهذه الظروف حين كانت تسيطر انجلترا عسكريا, وكان ملنر وزير المستعمرات رجل لندن القوي له جبروته. فهناك تحفظات بلا شك علي وجود القوات الانجليزية ومسألة السودان والاقليات, ولكن يجب ان يقرأ التصريح في زمانه.
فتصريح فبراير سبب مباشر في دستور1923 أشهر الدساتير المصرية. صحيح ان الزعيم سعد زغلول قال عن الثلاثين القانونيين والسياسيين الذين وضعوا الدستور بأنها لجنة أشقياء ولكن هذا الدستور نفسه طالبنا بعودته عام.1930
وتصريح28 فبراير أنجب أيضا نظام حكم جديد في الشكل وليس المضمون ففي مارس تأسست الملكية المصرية وتحول السلطان إلي ملك.
وكل ثورة في مصر في العصر الحديث تمخض عنها دستور. فالثورة العرابية اظهرت أفكار7 فبراير1882, وثورة1919 أسست لدستور.1923 وبالنسبة لثورة1952 فقد كانت هناك محاولات في عام1954 ولكنه صدر عام.1956
ولهذا فثورة25 يناير لابد ان يكون لها دستور لتحديد الشكل القائم علي الحكم ثم البرلمان الذي يحدد الحقوق والواجبات كعقد اجتماعي.
وصحيح ان هناك رأيا يقول اننا تأخرنا ولكن لو نظرنا عبر التجارب الدستورية في العالم كله سنجدها قد حصلت علي وقت لازم لإنضاجها.
أما اطرف ما لقينا من تعليق علي تصريح28 فبراير1922 مقالة نشرت في جريدة مصر بتاريخ7 مارس1922, بعنوان أنتهاء الحماية نذكر منها فقرة عبرت عن رأي غالبية المصريين في تلك الفترة وكانت تقول: لعل أجمل فقرة حسبت تستهوي النفوس و تخلب الألباب وتسر القلوب ونحث فيها أطمئنانا هي الفقرة الأولي من التصريح البريطاني لمصر
ـ أنتهت الحماية البريطانية في مصر...... وإننا لنترك للمفسرين والشراح السياسيين قولهم أن كلمة أنتهت يجوز أن تكون بمعني ألغيت أو بمعني زالت وان كنا نفهم بأن كلمة أنتهت قد تكون بمعني تمت أو كملت لآن ألفاظ السياسيين ومدلولاتها لايمكن الأخذ بها كما هي, ولكن الفطن لايفرح بسطر وينسي سطورا أو بفقرة ثم يغفل بقية الفقرات وينأي بجانب عما بين السطور.
وبعد فأن قصة نفي الزعيم سعد زغلول وعودته.. وقصة الثورة والدستور انما تثبت أن مصر قد يتولي أمرها سياسيون تتعدد أفكارهم الا أنها تظل تعمل بروح الثورة التي تولد في كل زمن بملامح مختلفه.
فثمة عبقرية يختص بها أهل مصر يمثلها هذا الوجود للفهم الفطري بين المصريين وهو الذي يجعلهم في النهاية يحققون ما يريدون.
فقد انتقدوا تصريح28 فبراير ولكنه كان خطوة إلي الإمام...خطوة مفهومة إلي الاستقلال والدستور.