رحلة البحث عن القيم الضائعة!
رحلة البحث عن القيم الضائعة!
غامرت في مقالاتي الأربعة الأخيرة بالإبحار في محيط القيم الزاخر بالعواصف النظرية والمشكلات العملية. وقد حاولت في أحد هذه المقالات القيم بين الدولة والنظام والمجتمع أن أصوغ إطارا نظريا ينطوي علي التمييز بين ثلاثة مستويات.
المستوي الأول هو الدولة من ناحية القيم التي تصدر عنها. ومن المعروف أنه تاريخيا كانت هناك دول استعمارية لم تجد حرجا في استعمار دول أخري من العالم الثالث, بل اخترعت نظرية خاصة للتبرير الأخلاقي لهذا الاستعمار هي نظرية عبء الرجل الأبيض, أي المسئولية التاريخية الملقاة علي عاتق المستعمر الأبيض( الغربي) لكي يقوم بتمدين الشعوب البدائية, وذلك هروبا من الاعتراف بأن استعمار الشعوب مضاد للقيم المعلنة التي ترفعها هذه الدول ذاتها, وهي الحرية والإخاء والمساواة.
أما في مرحلة ما بعد الاستعمار فنحن نستطيع التفرقة بين دول تقليدية ودول تحديثية. ونقصد بذلك أنه في إطار العالم الثالث هناك دول أصرت نخبها السياسية الحاكمة علي أن تبقيها في إطار التقاليد الحاكمة القديمة الموروثة من الدول التي قامت علي أساس العصبية( لو استخدمنا مصطلح ابن خلدون الشهير) ودول تحديثية أدركت نخبها السياسية الحاكمة ضرورة الخروج من شرنقة التقاليد القديمة إلي رحاب التقاليد الحديثة للدول العصرية, عن طريق اتباع استراتيجيات التحديثModernization من توسيع إطار التعليم الأساسي والعالي إلي تحديث الاقتصاد وتبني القيم الاجتماعية العصرية, التي هي أعمدة نظرية الحداثة الغربية التقليدية, ونعني الفردية والعقلانية والاعتماد علي العلم والتكنولوجيا.
أما المستوي الثاني في إطارنا النظري- الذي لم يتح لنا لضيق المساحة التفصيل فيه- فهو يتعلق بطبيعة النظم السياسية المطبقة, التي قسمناها إلي نظم شمولية وسلطوية وليبرالية.
النظام الشمولي يقوم علي ممارسات فاسدة تؤدي إلي تشوه القيم الإنسانية, لأنه ينهض علي أساس القهر السياسي المعمم, ويمحو مؤسسات المجتمع المدني تماما. وتنفرد فيه النخبة السياسية المستبدة الحاكمة باتخاذ القرار, وتستولي علي السلطة والنفوذ والثروة, وتمارس القمع السياسي العنيف, فترسخ قيم الخوف من السلطة, والخنوع لأولي الأمر, وتستنكر قيم التمرد, وتقضي علي مبررات ثورة الجماهير المشروعة للمطالبة بالحقوق.
أما النظام السلطوي فهو لا يمارس القمع السياسي بشكل مباشر كالنظام الشمولي, لكنه يمارسه خفية وبأسلوب غير مباشر, بل قد يغطيه بأساليب قانونية فاسدة وتشريعات منحرفة, وهو يترك هامشا ضئيلا من الحرية الاجتماعية حتي يضفي الشرعية الشكلية علي ممارساته الاستبدادية أمام العالم الخارجي. ويبقي النظام السياسي الليبرالي الذي هو علي مستوي النظرية- أفضل هذه النظم السياسية المختلفة, لأنه ينهض علي أساس حرية التفكير وحرية التعبير والتعددية السياسية والحزبية وتداول السلطة وسيادة القانون.
وقد ترد قيود شتي في التطبيق علي المنطلقات النظرية للنموذج الليبرالي غير أنه بالقطع أفضل من كل من النموذج الشمولي والسلطوي.
ومصر الآن بعد ثورة25 يناير في قلب المعركة الكبري المتعلقة بالانتقال من النظام السلطوي السابق إلي النظام الديموقراطي الليبرالي المرتجي.
وتحول دون تمام هذه العملية- التي هي الخطوة الأولي للانطلاق في مجال النهضة الحضارية الحقيقية- ظاهرة الاستحواذ المطلق علي السلطة من قبل النخبة السياسية الإخوانية الحاكمة, وتسخير التشريعات المختلفة والدستور نفسه للهيمنة المطلقة علي مجمل الفضاء السياسي, والاستبعاد المطلق للمعارضة من دائرة اتخاذ القرار ومن مجال التشاور السياسي الضروري في أي نظام ديموقراطي, وخصوصا فيما يتعلق بسياسات الأمن القومي, والتشريعات الكبري التي تتعلق بأمن ومصالح الجماهير العريضة. غير أنه تبقي أهم المستويات قاطبة في إطارنا النظري المقترح وهو طبيعة المجتمع الذي نبحث عن إرساء القيم الإيجابية في تربته علي حساب القيم السلبية التي أدت إلي تدهور القيم بشكل عام, مما دفع بنا إلي البحث عن الوسائل المختلفة لإحيائها, بل لإعادة صياغتها لتكون قادرة علي صياغة المستقبل.
ونعني بطبيعة المجتمع هل هو مجتمع تقليدي يتشبث بالماضي ويقاوم تيارات العصرية المتجددة والتي تتمثل في تغير نماذج المجتمع العالمي, وأهمها الانتقال من قيم المجتمع الزراعي إلي قيم المجتمع الصناعي, وأخيرا إلي قيم مجتمع المعلومات العالمي؟
أم أنه مجتمع قادر علي التكيف مع تيارات التجديد العالمية؟ وهل هو مجتمع تسوده الآراء والتيارات الدينية المتشددة التي تسعي بكل طريقة إلي أن يكون الماضي هو المرجعية الأساسية في القيم والسلوك في الحاضر, بحيث يحكم الموتي من الأجيال الماضية من فقهاء ومفسرون ومفكري الحاضر, أم هو مجتمع يحرص علي احترام التقاليد ولكنه لا يقف مقاوما بعناد تاريخي كل صور التقدم بحجة أنه تقدم غربي مبتدع لا يتفق مع تراثنا وعاداتنا؟
غير أن هذا الإطار الواسع, الذي يحتاج في الواقع للتفصيل في مفرداته المتعددة يحتاج إلي مساحات لا تسعها المقالات الصحفية المحددة.
ولذلك نشرت تعليقات بعض قرائي الكرام علي شبكة الإنترنت يبدون فيها عدم رضائهم عن عدم تعمقي في بحث القيم, بل إن بعضهم دعاني صراحة إلي الدخول في الموضوع, وأن أتجاوز المقدمات التي سقتها لمناقشة الموضوع.
واحتراما مني لهذه الملاحظات النقدية الصائبة قررت تغيير استراتيجيتي في الكتابة, والاستعانة ببعض المراجع الأكاديمية الأصيلة التي أقدر إسهامها في موضوع دراسة المجتمع العربي تقديرا عاليا. وفي مقدمتها الكتاب الموسوعي للصديق الدكتور حليم بركات وهو عالم اجتماع مرموق ومؤلف روائي مبدع في الوقت نفسه. والكتاب عنوانه المجتمع العربي في القرن العشرين: بحث في تغير الأحوال والعلاقات, وقد نشره في صورته الأخيرة المعدلة( مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام2000).
وقد لفت نظري حين أعدت قراءة الكتاب لكي أحل مشكلة التحليل المنهجي لأزمة القيم أن حليم بركات في أحد الفصول المهمة يتحدث عن الاتجاهات القيمية الأساسية في المجتمع العربي. وقد أجملها في تسع قيم تستحق المناقشة النقدية. وهي قيم القضاء والقدر وقيم الاختيار الحر, والصراع بين القيم السلفية والقيم المستقبلية, وقيم الاتباع وقيم الإبداع, وقيم العقل و قيم القلب, وقيم المضمون وقيم الشكل, وقيم الامتثال وقيم التفرد, وقيم الشعور بالعار والشعور بالذنب, وقيم الانفتاح علي الآخر وقيم الانغلاق علي الذات, وقيم احترام السلطة وقيم التمرد عليها.
وهكذا في ضوء هذا الحصر الشامل قررت- بلغة المسابقات التليفزيونية- الاستعانة بصديق هو الدكتور حليم بركات الذي شاركته عديدا من المرات في جامعة جورج تاون الأمريكية في ندوات ولقاءات وكان معنا الصديق الراحل الدكتور هشام شرابي. ويعني ذلك أن مقالاتي المقبلة ستكون في وصفها الدقيق تهميشا علي متن حليم بركات.!
المستوي الأول هو الدولة من ناحية القيم التي تصدر عنها. ومن المعروف أنه تاريخيا كانت هناك دول استعمارية لم تجد حرجا في استعمار دول أخري من العالم الثالث, بل اخترعت نظرية خاصة للتبرير الأخلاقي لهذا الاستعمار هي نظرية عبء الرجل الأبيض, أي المسئولية التاريخية الملقاة علي عاتق المستعمر الأبيض( الغربي) لكي يقوم بتمدين الشعوب البدائية, وذلك هروبا من الاعتراف بأن استعمار الشعوب مضاد للقيم المعلنة التي ترفعها هذه الدول ذاتها, وهي الحرية والإخاء والمساواة.
أما في مرحلة ما بعد الاستعمار فنحن نستطيع التفرقة بين دول تقليدية ودول تحديثية. ونقصد بذلك أنه في إطار العالم الثالث هناك دول أصرت نخبها السياسية الحاكمة علي أن تبقيها في إطار التقاليد الحاكمة القديمة الموروثة من الدول التي قامت علي أساس العصبية( لو استخدمنا مصطلح ابن خلدون الشهير) ودول تحديثية أدركت نخبها السياسية الحاكمة ضرورة الخروج من شرنقة التقاليد القديمة إلي رحاب التقاليد الحديثة للدول العصرية, عن طريق اتباع استراتيجيات التحديثModernization من توسيع إطار التعليم الأساسي والعالي إلي تحديث الاقتصاد وتبني القيم الاجتماعية العصرية, التي هي أعمدة نظرية الحداثة الغربية التقليدية, ونعني الفردية والعقلانية والاعتماد علي العلم والتكنولوجيا.
أما المستوي الثاني في إطارنا النظري- الذي لم يتح لنا لضيق المساحة التفصيل فيه- فهو يتعلق بطبيعة النظم السياسية المطبقة, التي قسمناها إلي نظم شمولية وسلطوية وليبرالية.
النظام الشمولي يقوم علي ممارسات فاسدة تؤدي إلي تشوه القيم الإنسانية, لأنه ينهض علي أساس القهر السياسي المعمم, ويمحو مؤسسات المجتمع المدني تماما. وتنفرد فيه النخبة السياسية المستبدة الحاكمة باتخاذ القرار, وتستولي علي السلطة والنفوذ والثروة, وتمارس القمع السياسي العنيف, فترسخ قيم الخوف من السلطة, والخنوع لأولي الأمر, وتستنكر قيم التمرد, وتقضي علي مبررات ثورة الجماهير المشروعة للمطالبة بالحقوق.
أما النظام السلطوي فهو لا يمارس القمع السياسي بشكل مباشر كالنظام الشمولي, لكنه يمارسه خفية وبأسلوب غير مباشر, بل قد يغطيه بأساليب قانونية فاسدة وتشريعات منحرفة, وهو يترك هامشا ضئيلا من الحرية الاجتماعية حتي يضفي الشرعية الشكلية علي ممارساته الاستبدادية أمام العالم الخارجي. ويبقي النظام السياسي الليبرالي الذي هو علي مستوي النظرية- أفضل هذه النظم السياسية المختلفة, لأنه ينهض علي أساس حرية التفكير وحرية التعبير والتعددية السياسية والحزبية وتداول السلطة وسيادة القانون.
وقد ترد قيود شتي في التطبيق علي المنطلقات النظرية للنموذج الليبرالي غير أنه بالقطع أفضل من كل من النموذج الشمولي والسلطوي.
ومصر الآن بعد ثورة25 يناير في قلب المعركة الكبري المتعلقة بالانتقال من النظام السلطوي السابق إلي النظام الديموقراطي الليبرالي المرتجي.
وتحول دون تمام هذه العملية- التي هي الخطوة الأولي للانطلاق في مجال النهضة الحضارية الحقيقية- ظاهرة الاستحواذ المطلق علي السلطة من قبل النخبة السياسية الإخوانية الحاكمة, وتسخير التشريعات المختلفة والدستور نفسه للهيمنة المطلقة علي مجمل الفضاء السياسي, والاستبعاد المطلق للمعارضة من دائرة اتخاذ القرار ومن مجال التشاور السياسي الضروري في أي نظام ديموقراطي, وخصوصا فيما يتعلق بسياسات الأمن القومي, والتشريعات الكبري التي تتعلق بأمن ومصالح الجماهير العريضة. غير أنه تبقي أهم المستويات قاطبة في إطارنا النظري المقترح وهو طبيعة المجتمع الذي نبحث عن إرساء القيم الإيجابية في تربته علي حساب القيم السلبية التي أدت إلي تدهور القيم بشكل عام, مما دفع بنا إلي البحث عن الوسائل المختلفة لإحيائها, بل لإعادة صياغتها لتكون قادرة علي صياغة المستقبل.
ونعني بطبيعة المجتمع هل هو مجتمع تقليدي يتشبث بالماضي ويقاوم تيارات العصرية المتجددة والتي تتمثل في تغير نماذج المجتمع العالمي, وأهمها الانتقال من قيم المجتمع الزراعي إلي قيم المجتمع الصناعي, وأخيرا إلي قيم مجتمع المعلومات العالمي؟
أم أنه مجتمع قادر علي التكيف مع تيارات التجديد العالمية؟ وهل هو مجتمع تسوده الآراء والتيارات الدينية المتشددة التي تسعي بكل طريقة إلي أن يكون الماضي هو المرجعية الأساسية في القيم والسلوك في الحاضر, بحيث يحكم الموتي من الأجيال الماضية من فقهاء ومفسرون ومفكري الحاضر, أم هو مجتمع يحرص علي احترام التقاليد ولكنه لا يقف مقاوما بعناد تاريخي كل صور التقدم بحجة أنه تقدم غربي مبتدع لا يتفق مع تراثنا وعاداتنا؟
غير أن هذا الإطار الواسع, الذي يحتاج في الواقع للتفصيل في مفرداته المتعددة يحتاج إلي مساحات لا تسعها المقالات الصحفية المحددة.
ولذلك نشرت تعليقات بعض قرائي الكرام علي شبكة الإنترنت يبدون فيها عدم رضائهم عن عدم تعمقي في بحث القيم, بل إن بعضهم دعاني صراحة إلي الدخول في الموضوع, وأن أتجاوز المقدمات التي سقتها لمناقشة الموضوع.
واحتراما مني لهذه الملاحظات النقدية الصائبة قررت تغيير استراتيجيتي في الكتابة, والاستعانة ببعض المراجع الأكاديمية الأصيلة التي أقدر إسهامها في موضوع دراسة المجتمع العربي تقديرا عاليا. وفي مقدمتها الكتاب الموسوعي للصديق الدكتور حليم بركات وهو عالم اجتماع مرموق ومؤلف روائي مبدع في الوقت نفسه. والكتاب عنوانه المجتمع العربي في القرن العشرين: بحث في تغير الأحوال والعلاقات, وقد نشره في صورته الأخيرة المعدلة( مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام2000).
وقد لفت نظري حين أعدت قراءة الكتاب لكي أحل مشكلة التحليل المنهجي لأزمة القيم أن حليم بركات في أحد الفصول المهمة يتحدث عن الاتجاهات القيمية الأساسية في المجتمع العربي. وقد أجملها في تسع قيم تستحق المناقشة النقدية. وهي قيم القضاء والقدر وقيم الاختيار الحر, والصراع بين القيم السلفية والقيم المستقبلية, وقيم الاتباع وقيم الإبداع, وقيم العقل و قيم القلب, وقيم المضمون وقيم الشكل, وقيم الامتثال وقيم التفرد, وقيم الشعور بالعار والشعور بالذنب, وقيم الانفتاح علي الآخر وقيم الانغلاق علي الذات, وقيم احترام السلطة وقيم التمرد عليها.
وهكذا في ضوء هذا الحصر الشامل قررت- بلغة المسابقات التليفزيونية- الاستعانة بصديق هو الدكتور حليم بركات الذي شاركته عديدا من المرات في جامعة جورج تاون الأمريكية في ندوات ولقاءات وكان معنا الصديق الراحل الدكتور هشام شرابي. ويعني ذلك أن مقالاتي المقبلة ستكون في وصفها الدقيق تهميشا علي متن حليم بركات.!